أقلام حرة

إجابة على ملاحظات، تفضل بطرحها أستاذنا الدكتور ميثم الجنابي

علي ثوينيوالرد على حمى المركزيات وطبيعة علاقتنا الملتبسة بالمركزية الفارسية..

أخي واستاذي الدكتور ميثم..

لا أريد أن أسبق ما وعدتكم به بصدد طبيعة المركزية الإيرانية وحيثياتها، والخطر الداهم الذي تشكله، بعدما طرقت الثقافة وهيمنت عمليا على التربية والتعليم والإعلام العراقي، وأبتدعت سلطة غرائبية من مراجع الشيعة القافزة فوق الدستور والبرلمان والحكومة والرأي العام الشعبي، حتى التبس الأمر ولم نعد نفهم من يسير العراق، هل سيستاني أم مالكي أو عبادي أو منتفجي. وقد وجه الإحتلال الإيراني الناس إلى الإنصياع "المقدس" للخطاب الذي يقوده المعممون الموجهون بعناية للرضى بإحتلال العراق وضياع سيادته وبالنتيجة سرقة خيراته وإبتذال نوعه وكساد الحياة فيه، والأهم عملية "تجهيل مقدس" تسير على قدم وساق إيرانية.وسوف أنشر تباعا أثر رجال الدين الشيعة على جعل تجمعاتهم الأكثر تخلف والأقل مرونة في تقبل سمات الحضارة والإنخراط بالحياة الحضرية وهبوط الذوق الجمالي المديني، كما حدث لدى جموع السنة ذوي الأصول البدوية الأكثر تخلفا في الغالب، لكنهم أمسوا الأكثر ممارسة لللإرتقاء من جراء هذا التأثير.

ومن المعلوم أن كل المراجع الدينية الشيعية ومؤازريهم في العراق من الإيرانيين، حتى دمغ التشيع بالصفة الإيرانية، رغم أنه علوي الجذر وكونه حالة لأنحياز سياسي أكثر من كونه فقهي .و نادرا ماتسمع بروز معمم عراقي عربي، و النقمة قائمة ضد مراجع لبنان الواقعيين أو لدينا ضد أمثال الشيخ الوائلي، بل ضد كل من يطرح خطاب وطني ويدافع عن حقوق الناس وينتقد السلطة التي تم تنصيبها ضمن لعبة يتشاركون بها مع الأمريكان . وهذا يشكل في نظرنا خطر حقيقي على الثقافة العراقية . فصراعنا معهم صراع وجود وليس حدود.أعود إلى النقاط الثلاثة التي تفضل بطرحها أخي الدكتور ميثم في تعليق له، لأجيبكم عليه:

1- لست متأكد من أن مفهوم الغريزة التأريخية للشعوب كان قد طرح سابقا أو أطر مفاهيميا، وقد تناولته منوها عنه كل مرة دون عمق، وهو يختلف عن مفهوم (الحتمية التأريخية) القابلة للتغيير والإبدال، و التي آمنت بها الشيوعية، والتي أثبتت فشل المشروع الشيوعي برمته. وأنها فكرة طوباوية، بعيدة عن تلمس حقائق التأريخ والتطور العضوي للمجتمعات.

لقد أقترنت الغريزة بالكائنات ومنها الإنسان كونه (حيوان ناطق ومفكر)، وقام العالم بافلوف الروسي بدراستها وسطوتها قبل اقل من قرن، وفحواها ممارسات وسلوكيات ورغبات ومشاعر متواترة ومغروسة في الكائن تظهر ولكنها ظامرة، ولاتدرك معاييرها، فلا يعي الطير سبب هجرته بين الشمال و الجنوب وكيف يستدل على الطريق بغريزته بعد أن تركته أمه بيضه في العش، أو مثل هجرة سمك سليمان كل أربع سنين في منتصف تشرين، في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا، عبر رحلة طويلة لمسافة 4000 كيلومترا للوصول إلى نهر أدامز، حيث تضع بيضها وتموت. وهذا من أثر الغرائز الماكثة في أسرار الخلق.فقد أمسى اللاشعور والمحركات الداخلية للوعي والحدس تسير على هدى إشارات لاواعية.وقد وجد أهل الأنثروبولوجيا اليوم المبرر من خلال طبيعة المورثات أو الحامض النووي(DNA)، الذي وجدوا به الكثير من التأويلات المنطقية لمنظومات حركة الإنسان العشوائية.

وبالرصد والمقارنة وجدنا أن للجماعات غريزة مثلما الأفراد، يتصرفون بثوابت وتواتر، بالرغم من تطور الوسائل وتصاعد المفاهيم، كثابت ضمن جدلية الثابت والمتحول. اي أن ثمة رغبات وسمات للشعوب تخضع لقوانين ومنظومات، ومنها المسالمة والعدوانية والطمع بالإستحواذ والهجرات كما الطيور والعودة للجذور مثل سمك سليمان.ونظن ان الشعوب الطينية (الفلاحية) أكثر إستقرار من الرملية (الرعوية)، وأن ثمة شعوب تقبل الهجرة مثل الشاميين على خلاف العراقيين أو المصريين الأكثر ميلا للإستقرار. وثمة تواتر بحوادث مثل الشعوب الرعوية كالإيرانيين والعرب والترك والتتر والأكراد، وحينما يشتد ساعدها يهاجمون الفلاحين المستقرين، وتجد الذريعة بهجرات أوحروب أو نشر دين كما حدث مع الإسلام.

ولنأخذ أهل المناطق الباردة مثل الروس وإسنكندنافيا، فهم تواقون للرحيل نجو الجنوب الدافئ المشمس، فقد هاجم اللومبارد والجيرمان والوندال والقوط والنورمان جنوب أوربا طمعا في دفئها، ومازالت مشاعر الروس متأججة في الهبوط للمياه الدافئة في الجنوب، وحسبنا أن مشروع تأسيس إسرائيل الذي تبرقع بمفاهيم روحية و(وعد الرب) فإنه محض دجل، فهم جاءوا من بولندا وروسيا وأوكرانيا والمانيا لشمس فلسطين. تشير بوصلة أهل شمال الأرض بالإتجاه الغريزي نحو الجنوب، وفي أقصى الشرق تشير بوصلتهم نحو الغرب، وأن أهل الجزيرة العربية تتحرك غرائزهم للرحيل نحو الشمال.ونجد أن أهل أوربا الشرقية تواقين للهجرة للغرب وكنت أظن أن شمولية الشيوعية كانت السبب لكني وجدته قد تعدى الحالة السياسية إلى هاجس غريزي دائم. ومن الطريف أن أهل الغرب يوسمون التوجهات والهجرة بإتجاه الشرق (orientation)، بينما عندنا بوصلة الغرائز ترشد نحو الغرب، ومنها جاءت التغريبة والإغتراب والغربة..الخ.

 أما الإيرانيون فهم تواقون للرحيل نحو الغرب لأحتلال العراق حصرا ونادرا ما هاجموا الهند أو آسيا الوسطى أو روسيا . فلنسأل أي إيراني، اين يحب أن يتوجه، فهو يشير إلى العراق بحجة كربلاء، رغم أنها أحجية أكل الدهر عليها وشرب، فعذرهم بوجود الإمام الحسين اليوم لم تكن متوفرة في أزمنة سومر وبابل، حينما هاجم العيلاميون والكيشيون والأخمينيون والساسانيون سومر وبابل. ومن الطريف أنهم كانوا يحبذون دفن موتاهم على الفرات طمعا بقربها من بؤرة عشتارالروحية، ثم مبرر سعيهم اليوم طمعا بشفاعة الأئمة. وهكذا هو تواتر الظاهرة في مناخات الأزمنة، بما يشعرنا أن ثمة ثابت غريزي جمعي عابر للتأريخ البشري تمليه طبيعة البيئة المولدة ومورثات جسمانية، تجد مايبررها.

أما بصدد زوال العدوانية فهو أمر لاحقيقة له، ولنضرب المثل بأن أي من يسكن الهضبة الإيرانية لابد أن يناصب من يسكن هضبة الأناظول العداء فبين الفرس واليونان وبين ساسان وبيزنطه وبين السلاجقة والبويهيين ثم بين الصفويين والعثمانيين، ويستمر حتى العداء اليوم بين إيران وتركيا. لذا أقول بأن العداء الإيراني للعرق متواتر وغير قابلة (للتلاشي والإندثار) ولايحكمها عقل بل تواتر لتلك الغريزة التأريخية .وسبق لي أن طرحت الفكرة في كتابي المؤلف (علي الوردي والمشروع العراقي 2007) والذي طرحت فيه أن العراق مثل المرأة الحسناء المكتنزة ثراء وحسن، وقابعة وحدها وسط طمع البداة من حولها، ويتم الإتفاق بين بداوتين لوطأها كما حدث اليوم بتعاون بين البداوة الفارسية والكردية بسياق منمق أمريكي/إسرائيلي، وقبله إتفاق بين البداوتين العربية والتركية إبان المد العروبي ذو الأصل الطوراني.

2- تبع العراق لحوالي تسعة قرون من الإحتلال الفارسي، وحينما طرد العرب الفرس 630م، حلت نقمة ماتزال تحتقنها نفوس القوم، وأمست حالة مستجدة للغريزة التأريخية، حتى لنجد الفارسي يتصيد الزلات والفضائح على العرب ويعيرهم بأقذع الألفاظ، وهذا ما سنورده تباعا مستل من ألسنة نخبهم. فكراهيتهم لأهل الجزيرة والخليج والعرب عموماً ليس إلا بسبب ذلك الصراع الذي حرمهم من نعمة العراق. لذا فإنهم إن أحبوا العراق يحبوه لخير مابه لكنهم يكرهون أهله المعيقين لمآربهم، بل يتمنون لهم الإبادة الجماعية، ونلمس في المدن الدينية الشيعية التي يشكل الفرس نسبة كبيرة من سكانها مثل النجف وكربلاء والكاظمية بأنهم يزدرون الفلاحين العراقين ويحتقروهم، وقد كشف النقاب عنها بعد إنهيار السلطة البعثية بعد 2003، وهيمنة القوى الإيرانية على مقادير الحكم، بل كثير من الناس لايعلم أن الشيعة طبقات، أولهم الإيرانيين أو ذوي الأصول الإيرانية، والآخرين هم الكربلائيين ثم النجفيين ثم الكاظميين ثم (الشراكوة) اي فلاحي الجنوب العرب، ثم الفيلية والتركمان. والطبقات الثلاث الأخيرة محل نقمة وكراهية عجيبة من الإيرانيين، وقد لمسناها في الحياة الإجتماعية العراقية.وكنا نرصد في الستينات والسبعينات حتى غادرنا العراق بأن الإيرانيين شكلوا دائما نظام (الكيتو) داخل المجتمع العراقي تحصنا وتحفزا وضغينة، وقد لمسناها في المغتربات، بأنهم تنصلوا عن أي إنتماء عراقي بل أظهروا مناصرتهم لأيران، وإحتقارهم للعراقيين الفارين معهم.وربما لمس الدكتور ميثم ذلك وهو إبن البيئة النجفية النشطة.

3- أشار أخي الدكتور ميثم إلى ضرورة رمي سبب مايحدث على العراقيين أنفسهم قبل العامل الخارجي ونقد الذات المهلهلة التي تعاني أصلا من عقدة جلد الذات المرضية، وتقمصتها النخب والدهماء على حد سواء.فالعراقيون لوامون لأنفسهم ضمن الثابت الثقافي حتى تجلى في فرق تتلذذ بالندب وملامة النفس وتوبيخها وحتى جلد الجسد الذي مازال ماكث في طقوس عاشوراء لدى الشيعة أو (الدروشة) لدى الصوفية السنة.وتذكر التواريخ أنهم كانوا يجولون في البصرة باكين مولولين بحرقة على ما أقترفوا من آثام، رغم أني متأكد أنهم لم يقترفوا ما يستحق كل هذا الغلو في توبيخ النفس.

و اللائمة على العراقيين كأمة تنحصر في إنخراطهم في أمور لا تنفعهم إلا آنيا وتنفع المركزيات والمتربصين بالشر لهم، مثلما كان حماسهم لتوجهات حزبية قومية أو شيوعية أو إسلاموية، بل أن الظاهرة الحزبية التي قادت الجموع إلى هاوية اليوم هي جوهر المصائب في صلبها .وتمكث العبرة بالنتائج، فلم نحصد بعد قرن من تواجد الأحزاب إلا الويل والثبور.والملامة الحقيقية توجه للسلطات التي بسبب عمالتها وسذاجتها ونأيها عن الإنتماء الوطني وإنحدارهم من الأقليات (ماعدا عبدالكريم قاسم)، فأنها لم تثبت نصاب برنامج تصاعدي يكرس المواطنة ويشعر بالإنتماء، فقد ربطونا بعوالم هلامية وطوباوية كالأممية والعروبية والإسلامية واليوم المذهبية الضيقة.فمنذ مشروع فيصل الأول (القومي) وإنزياحه العنصري من طرف ساطع الحصري والرعيل العصمنلي، لم يبن العراق تراتبية بالإرتقاء الإنتمائي (للتراب الوطني) كما هو حال فكرة (القومية الترابية الفرنسية) التي نجدها في إيران، بينما عندنا تكرست (القومية العنصرية الألمانية)، والدينية الطائفية اليهودية، وجاء المحتل اليوم ليكرسها بدستور ومنظومة دولة متراكبة ومعقدة لاتفهم منها توجه ولا وسائل أو أهداف أو تراتبية القرار.

وحسبي ان العراقيين لايختلفوا في الطبيعة البشرية عن بقية الشعوب، بل أن بعضها تستحق التجريم أكثر من اللوم، كما مؤازرة الألمان للنازية أو أهل أوربا الشرقية للشيوعية أو المصريين للناصرية أو السوريين للبعثية، وليس نحن فقط من مارسنا الذيلية السلطوية أو تبعنا المركزيات الخارجية.وحري الإشارة إلى أن الأوربي الشرقي يشعر بدونية أمام الأوربي الغربي والأمريكي، و الروسي يشعر بدونية نموذجية أمام هؤلاء، وذلك من جراء تقليد المثل الأعلى الغربي منذ مشروع بطرس الأكبر التغريبي . وكل هؤلاء يستحقون اللوم و أظن أن العراقيين أحسن منهم حالا.وأذهب إلى أن من يحاول رمي العلل والنتائج على العامل الداخلي هو مغرض ويحمل ضغينة مبطنة كما ذوي الأصول الإيرانية أو القوميين الأكراد في المجتمع العراقي التي طفحت حقيقتهم اليوم، وتلك الدعاوى الملتبسة بإبليس، تروم أن تبعد الشبهة عن السبب الخارجي. فجلد ذاتنا وتركيز الملامة على مافعلنا، يصب اليوم في صالح "لامشروع" المحتل الأمريكي/ الإيراني.

 إن جذور جلد الذات ولوم الناس تقترن بالخطاب الديني الشيعي الذي تبنته مراجعهم الإيرانيين في تكريس حالة من الدونية العراقية على الأقل أمام الفارسي. تذكروا ياكرام أحجية (لعن الله أمة خذلتك وأمة قتلتك) التي أشاعها قراء المنابر الحسينية الإيرانيين، بما يخص قصة مقتل الإمام الحسين، وهي موجهة مبطنا نحو العراقيين، وكأنهم من قتل الحسين فعلا، بعدما أدخلوا القصة في عالم من الأسطرة والمبالغات وتأجيج المشاعر واليقينية، يراد بها جعل العراقيين يشعرون بجرم سرمدي . ورغم كل تلك المحاولات الملتوية لإذلال النفس العراقية لكنها مكث دائما تعتد بذاتها الثقافية.

وهنا حري أن أشير إلى أن الإيراني يعاني من دونية عالية أكثر من الروسي والأوربي الشرقي أمام الغربي، وهذا متأت من اثر الإقتباسات إبان الدولة القجرية التي حصلت في القرن التاسع عشر وتقليدها للنموذج الغربي. لذا فالعراقي ورغم الضياع العثماني والمسخ العروبي إبان السلطة الملكية و الشمولية البعثية، لكنه مازال مرفوع الهامة معتد بإنتماءه، بل ومنتمي للأرض رغم الداء والأعداء.لذا وبدون خيلاء وغرور فالعراقي لايلام بعد عملية مسخ مركبة قادتها سلطات مسيرة وقيادات سلطوية وحزبية عميلة.

سأردف تباعا ما كتبته بصدد المركزية الفارسية ومحاولتها الهيمنة على العراق ثقافيا، وهو أخطر من الهيمنة الأمريكية المادية العابرة والمؤقته. لذا سيكون للمثقف موقف مهم، وحسبنا أن العرق يخلوا اليوم من طبقة مثقفة فاعلة ومؤثرة وتقول الحقيقة دون إنحياز ومداهنة ومآرب ملتوية جوهرها إنتماءات صغرى ومناصرة فئوية أو مناطقية أو جهوية أو طائفية، تتبرقع بحج المفهومية التي ينكشف عقبها دون طائل، حينما يقرأ مصدرها وتحلل مآربها.العراق محوج لعلي الوردي ومثقفين بمستواه يحركون آسن الوعي الذي وصل إلى التشكيك حتى بوجود بلد وثقافة وتأريخ حضاري أسمه العراق.

 

د.علي ثويني

 

في المثقف اليوم