أقلام حرة

النهضة العلمية في حضارة الهند القديمة

محمود محمد عليذكرنا في المقالة السابقة كيف أسهمت حضارة العراق بنصيب وافر في مضمار التقدم والنهضة والعلمية وهنا في هذه المقالة نصل إلي حضارة الهند ، حيث يعرض لنا العلَّامة «جوستاف لوبون» في كتاب «حضارات الهند» عرضًا تاريخيًّا شاملًا بالتحليل والنقد لتطورات النظم الدينية والاجتماعية في الهند وعوامل هذه التطورات، ويبحث أيضًا في الحوادث التاريخية والحادثات الطبيعية، ويبعث الأجيال الغابرة بما انتهى إليه من الكتابات والنقوش والرسوم، وبعرض صور لبعض آثار تلك البلاد العريقة التي شكلت منبتًا للكثير من المعتقدات والديانات.

قامت حضارة الهند القديمة على ضفاف أنهارها ودلتاتها ، كوادي السند وروافده ، حيث مقاطعة البنجاب ، وعلى ضفاف نهر الغانج وروافده ، وعلى ضفاف نهر كرشنا في الدكن ، وذلك منذ حوالى 3000 – 3500 ق.م وحتى 1700- 1500 ق.م . وقد تزامنت حضارة وادى السند بعض الوقت مع الحضارة المصرية والسومرية، ولا يعرف الكثير عن حضارة وادى السند بالمقارنة مع حضارة مصر وحضارة وادى الرافدين ، وذلك بسبب نقص السجلات الخاصة بهذه الحضارة .

ولم تقتصر حضارة الهند القديمة على ضفتى نهر السند ؛ بل شملت منطقة واسعة مساحتها حوالى 1.4 مليون كيلو متراً مربعاً وامتدت من البحر العربي في الجنوب حتى مدينة " جوجارات " وامتدت إلى الشرق حتى " دلى " ، وكانت مدينتا هاربا وموهنجو – دارو أهم المدن وتبلغ المسافة الفاصلة بينهما حوالى 4000 كم .

وكما هو الحال فى الحضارات المزدهرة القديمة، فقد تعرضت حضارة السند لغزو خارجي فى حوالى 1700 – 1500 ق . م قام به رعاة آريون جاءوا عبر الممرات من الشمال الغربي واستولوا على مدن وادى السند المحصنة. وفى القرن السادس قبل الميلاد تعرضت المناطق الشمالية لغزو فارس ، ثم تلاه الغزو اليوناني بقيادة " الاسكندر الأكبر " فى القرن الرابع قبل الميلاد.

وبالنسبة لملامح النهضة العلمية في المجتمع الهندي القديم ، فقد تميز هذا المجتمع بنسيج ثقافي وحضاري عجيب تعددت فيه اللغات واللهجات مثل تعدد الأديان والمعتقدات والمذاهب في جو لاهوتي مفعم بالخوف والألم ، حتى أصبحت القرابين والتمائم وقراءة الكف والعرافة وطائفة الكهان التي بلغ تعدادها الملايين ومروضو الثعابين بالسحر وممارسة اليوجا .. الخ . كل ذلك فى جو من البؤس والفقر الذى لا يحتمل ولا يطاق إلا في المجتمع الهندي وتشكلت صورة الهند القديمة وطبها مع ذلك كله ، فظهر الفن الطبي في كتب التراث الهندية القديمة ، وكأنه علم سحري يقوم على نظرية التوافق بين الجسم الذى هو العالم الأصغر والطبيعة وهى العالم الأكبر . وفى نفس الوقت أعزوا الأمراض إلى عوامل خارجية مثل الشياطين التي تتقمص الأبدان ومخالفة المقدسات والقيم والعادات .. الخ .

وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، إلا أن كثيراً من أطباء الهنود مارسوا التشريح، لأجل تدريب الجراحين ، ومن ثم ارتقى على وظائف الأعضاء لدرجة أنه فى القرن السادس قبل الميلاد كان الأطباء الهنود على علم جيد بخصائص الأربطة العضلية ، ورتق العظام والجهاز اللمفاوى والأنسجة الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وكثير من عضلات الجسم ، وعرفوا أن الغذاء الذى يتناوله الإنسان ويتم هضمة يتحول إلى عدة صور آخرها الدم، وكانوا يحذرون من الزواج بين الأشخاص المصابين بأمراض معينة مثل السل أو الصرع أو ضعف الإبصار وغيرها .

واكتشفوا أن الحمل يستحيل خلال أثنى عشـر يوماً من موعد الحيض ، ووصفوا تطور الجنين وصفاً دقيقاً وجيداً وزعموا أن جنس الجنين يمكن التأثير فيه – فى بعض الحالات – بفعل الطعام أو العقاقير أو حتى السحر (29).

وأجروا العديد من العديد من العمليات الجراحية تحت مخدر مثل عمليات الماء فى العين والفتق وإخراج الحصاة من المثانة وترقيع الأذن الجريحة بقطع من جلد المصاب نفسه وتقويم الأنف ، وبتر الأطراف والتى كانوا يستخدمونها فى عقاب المجرمين ، بالإضافة إلى جدع أنوفهم وأجروا الجراحات فى البطن وجبروا كسور العظام وأزالوا البواسير وكانوا يعقمون الجروح بالتبخير .

كما عرفوا الطب البيطري وكان يقسم إلى طب الخيول وكانت الخيول هى الأضاحي الرئيسية فى الديانة الهندية القديمة ، ثم طب الفيلة ، والطبان يعالجان بطرق مختلفة ، كما أنشأ الهنود المستشفيات فى القرن الخامس قبل الميلاد ، وقد تأثر الطب الهندي في رحلته الطويلة بطب الحضارات المجاورة وتأثرت به هذه الحضارات . وقد ترجم العرب التراث الطبي الهندي منذ القرن الثاني للهجرة واستدعى " هارون الرشيد " الأطباء الهنود للعمل فى المستشفيات ومدارس الطب فى بغداد .

وفى مجال الرياضيات ، فقد عرف الهنود المتواليات العددية والهندسية ، والجذور التربيعية والتكعيبية ، وتفتنوا في المربعات السحرية التي إذا جمعت في خاناتها طولاً أو عرضاً كان لها مجموع ثابت ، وتقدموا ببحوث الحساب شوطاً . وجاء فى تراثهم الرياضي العددي من المسائل الحسابية وطرق حلها .

أما فى الجبر فقد عرفوا الأعمال الأربعة ، وكانوا يضعون لكل مجهول رمزاً خاصاً به يميزة عن المجهول الآخر ، وعرفوا الكميات السالبة وميزوا بينها وبين الكميات الموجبة ، وحلوا معادلات من الدرجة الثـانية ، وجمعوا بيـن المـعادلات الثـلاث وهى :- .

أ س2 + ب س = جـ

ب س + جـ = أ س2

أ س2 + جـ = ب س

وكونوا معادلة عامة هي : ل س2 + ع س + ن = صفر وحلوها بطريقة تقترب من التى نعرفها الآن ، وكان ذلك فى القرن السابع الميلادى وعرفوا أن هناك جذرين للمعادلات ذات الدرجة الثانية ، والمعادلات السيالة أو غير المعينة ، وابتكروا طرقاً لحلها . وفى الهندسة عرفوا الهنود المربعات والمستطيلات والعلاقات بين الأقطار والأضلاع ، وعرفوا نظرية فيثاغورس وحسبوا للنسبة التقريبية "ط" قيمة قريبة جداً من القيمة الحقيقية وهى 3.1416 وقد عبروا عنها بالرقم "22÷7 .

وفى مجال الفلك عرف الهنود السنة القمرية والسنة الشمسية ، كما عرفوا الكسوف والخسوف واستخدموا أدوات للرصد مثل المزولة والساعات المائية ، واعتبارا من القرن السادس ق. م ، كان الاتصال بين الحضارة الهندية والحضارات البابلية والفارسية والإغريقية " ؛ وخاصة فى العصر الهلينستى" ، وأدى ذلك إلى زيادة اختلاط وتزاوج أفكار هذه الحضارات . وبعد حقية طويلة من هذا التزواج ظهرت مؤلفات فلكية هندية أهمها " السيدهانتا "  Siddhanta  " الحلول" وعددها خمسة حلول أهمها كتاب " سوريا سيدهانتا " Suryasiddhanta  بمعنى الحل الذى قدمته الشمس ، وجاءت الكتب الأربعة الباقية فى كتاب الفلكى الهندى " فاراهاميهيرا " Varahamihira فى القرن القرن السادس الميلادى وعنوان هذا الكتاب " بانكاسيدهانتا " Pancasiddhanta  بمعنى حول الحلول الخمسة ، وقد كتب كتاب " سوريا سيدهانت " فى القرن الرابع الميلادى ، وتم تعديل بعد ذلك ، وذكر " البيرونى " أن هذا الكتاب للفلكى الهندى " لاتا" Latta ويتضمن جداول فلكية وحركات الكواكب وخسوفات الشمس والقمر ونظام الكون وأعمال أخرى خاصة بالتنجيم بالإضافة إلى وصف بعض أدوات الرصد كالمزولة الشمسية وجهاز الكرة ذات الحلقات " الكرة المحلقة " ... الخ.

واشتهر من فلكى الهنود من القرون الأولى الميلادية الفلكى " أربابهاتها" الذى قسم السنة الكونية الكبرى فى كتاب "سورياسيداهانتا" " 4320.000 سنة " إلى أربعة أحقاب متساوية كل منها 1080.000 سنة ، ثم الفلكى "فارهاميهيرا" وهو الذى لخص كتب السيد هانتا الخمسة فى القرن السادس فى كتاب المسمى " بانكاسيدهانتا "  بالإضافة إلى أعمال أخرى . أما أشهر فلكى الهنود ، والذى عرفه العرب فى العصر العباسى فهو الفلكى " براهماجوبتا " الذى ولد فى البنجاب سنة 598م ، فى سنة 628م الف كتاب " براهما سفويبد هانتا " الذى ترجمة العرب باسم السند هند .

أما في مجال الفلسفة فقد ازدهرت الحضارة الهندية بهذا، وأن الغاية من المعرفة ومن الفلسفة، ليست السيطرة على العالم بقدر ما هي الخلاص منه، وأن هدف الفكر هو التماس الحرية.

وإذا كان علماء الغرب ومؤرخوه يجعلون اليونان معجزة الحضارات القديمة، وهذا خطأ جسيم، فإن الحضارة اليونانية اقتبست الكثير من حضارات الشرق.

وللحديث بقية

 

بقلم د. محمود محمد علي

كلية الآداب – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم