أقلام حرة

الإرادة والإبادة!!

صادق السامرائينداء إرادة الحياة إنطلق من تونس منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وتم إتهام صاحبه بالإلحاد وكفّره ذوي اللحى والعمائم وهاجموه في خطبهم، مثلما هاجموا الرئيس التونسي بورقيبة في ستينيات القرن العشرين، وما غنموا أقل من عُشر ما طالبهم بالقبول به آنذاك!!

قال أبو القاسم الشابي:

"إذا الشعب يوما أراد الحياة...فلا بد أن يستجيب القدر"

فهبّت عليه شياطين الضلال والبهتان وإتهمته كالعادة بالزندقة والإلحاد والكفر، وما شئت من أخوات هذه التسميات البهتانية المعطلة للعقل والمحطمة للإرادة.

وما قاله الشابي قانون راسخ صحيح تمضي على هديه الحياة منذ الأزل، فالإرادة تصنع الحياة وتتوافق معها إرادة الوجود بأكوانه وآفاقه المطلقة، ولكي تكون لابد أن يكون إيقاع خطواتك متناغما مع واقع الصيرورة الأبدية من حولك، فالفرد لا يمكن فصله عن الواقع الكوني بأحجامه وكينوناته الدورانية المتواصلة المتداخلة المتناغمة وفقا لإيقاعٍ مشترك جامع مانع.

فالقدر طاقة كامنة في الأعماق ومتصلة بطاقات الأكوان أو هي تمثلها وترمز لها، فالقدر الذاتي والموضوعي آلية تفاعلية ما بين الذات والذات، والذات والموضوع، والموضوع والموضوع، ولهذا فالمخلوقات تشارك في صناعة قدرها وتقرير مصيرها، ذلك أنها جميعا وبلا إستثناء موجودات عاقلة، فلا يوجد موجود غير عاقل في هذا الكون، والبشر هو الذي أطلق هذه التوصيفات والتسميات التي يجهل معظمها ويحسب أنه يعلم وما أوتي من العلم إلا قليلا.

والحياة بمطلقها ذات طاقة إرادة وإبادة، وبتوفر هاتين الطاقتين بتأثيراتهما المتباينة تتحقق النتيجة المصيرية في معادلة التفاعل الصيروراتي الكوني السرمدي الدوران والرافض للسكون، لأنه يتسبب بالتعفن والإضطراب السلوكي المبيد.

و"إذا الشعب يوما أباد الحياة...فلا بد أن يستديمَ الخطر"

بمعنى أن طاقة الإبادة ستستجلب ما يساهم في تحقيقها، ولهذا تجد الموجودات التي تعتلج فيها طاقات الإبادة في محنة إستجلاب الأخطار والدواهي الكفيلة بتحقيق التدمير الذاتي والخراب الكينوناتي.

فعندما يسود المزاج الإكتئابي السوداوي تتوافد على الشخص أو المجتمع المعززات السلوكية لهذا المزاج، وبدوامه تزداد تفاعلا وتضخما وتأسدا فتسود، وينجم عنها ما يتوافق معها في الواقع الذي تكون فيه.

و"إذا الشعب يوما أهان الحياة...فلا بد أن يستحيلَ الظفر"

إهانة الحياة من السلوكيات المروعة العاصفة في الواقع العربي على مر الأجيال، فتسببت بتأهيل إرادة الموت وتعزيزها والإمعان بتوفير المسوغات للدفع نحو سلوك الموت.

فالذي يتكرر في الخطب والتصريحات أن الدنيا لا قيمة لها ولا فائدة ترتجى منها، وعلينا أن نهينها ونرفضها ونستعد لما بعدها، وآليات إهانة الحياة متراكمة في الوعي الفردي والجمعي العربي، لدرجة أن آليات الإندفاع نحو الموت هي الفاعلة، وهذه أدّت إلى سلوكيات موتية متفاقمة.

و"إذا الشعب يوما أجاد الحياة.....فلا بد أن يستقيمَ السفر"

الحياة مهارة وفن وجد وإجتهاد وإيمان وإمعان بالعطاء والإبداع، وحركة دائبة الجريان لا تعرف الإستنقاع والركود في الحفر، بل أنها تتسرب إلى أعماق كل موجود مهما صغر أو كبر، فالحياة ديدن ما هو قائم فوق وفي التراب.

وفن الحياة له قواعده ومنطلقاته وقوانينه وخرائطه الكينوناتية، وعلى مستوى الأفراد والمجتمعات، وما يميز الموجودات عن بعضها هو درجة إتقانها لفن الحياة.

فالأفراد البارعون بهذا الفن يتألقون وكذلك المجتمعات، وهذه القدرة الحياتية هي التي تميز الأمم والمجتمعات عن بعضها، فالصين أجادت تقنيات صناعة الحياة، ومعظم الدول المتقدمة، أما الدول المتأخرة فأنها في أمية وجهل لمهارات صناعة الحياة، ولهذا فأن الأولى تمضي في مسيرتها بتفوق ونجاح والثانية في تدحرجات وإنكسارات وخيبات ومتواليات خسران.

و"إذا الشعب يوما أكاد الحياة.....فلا بد أن يستعيدَ العِبَر"

الكيد: المكر والخبث

التفاعل الماكر الخبيث في المجتمع يتسبب بتداعيات سلوكية ذات نتائج خسرانية لأنها تزعزع الثوابت والقيم وتدمر الأخلاق، فيدخل المجتمع في صراعات عبثية ويستنزف طاقاته في محاولات النجاة من الماكرين وأحابيلهم وخبائثهم التي يغنمون من ورائها إفساد الأيام وزعزعة الأمن والأمان.

ومعالجتها تتحقق بالإعتبار والركون إلى الحكمة والإتعاظ ونشر الوعي بين الناس، للوقوف بوجه هذه السلوكيات المبددة للقدرات والثروات، وسلوك المكران يسود عند أصحاب الكراسي والمتاجرين بالدين والبشر من ذوي الظواهر النظيفة والبواطن السخيفة.

و"إذا الشعب يوما أحبَّ الحياة.. فلا بد أن يستفيدَ البشر"

حب الحياة فطرة خلقية تشترك فيها جميع الموجودات، فكل مخلوق فيه نزعة حب الحياة لكي يبقى ويدوم ويساهم في تحقيق رسالته التي وُجد بسبها، وقد تكون رسالة فيه أو في مَن سيأتي منه من بعده، لكن لكل مخلوق غاية وفيه طاقة حب وتمسك بالحياة، ولا فرق في ذلك ما بين أي مخلوق غير البشر والبشر، فكل حي يرغب بالحياة ولا يريد الموت، وعندما يعبّر المخلوق عن حبه للحياة فأن المخلوقات من حوله ستتنعم بالحب، وتبدي ما عندها من تعبيرات حب الحياة الكامنة فيها والمؤكدة لوجودها ودورها المحب المجيب. ولهذا فأن إشاعة ثقافة حب الحياة تساهم في تحقيق السعادة البشرية في المجتمعات التي تجتهد في أساليب تعبيرها عن حب الحياة.

و"إذا الشعب يوما تفادى الحياة...فلا بد أن يستميلَ الحذر"

ثقافة تفادي الحياة والوقوف على التل من المسلمات المتوارثة في الواقع العربي، وقد أسهمت في برمجة عقول الأجيال وأترعتها بموجبات الحذر والتحوط من الحياة، لأنها في دنيا فانية والأوجب والأبقى هي الحياة الآخروية التي يجب السعي نحوها بنكران الحياة الدنيا، فلا قيمة لعمران أو بنيان أو عطاء جميل لأنه بهتان، ويجب على البشر أن يمضي وقته قنوطا جامدا عاجزا متعبدا في صمته ووحدته بعيدا عن تيار الحياة، وهذه الآلية التدميرية للحياة هي التي أوجعتها بما هو سلبي ومناهض لكينونتها الزاهية، وأحاطتها بالحذر والخوف من كل جهد جميل، فتراكمت فيها علائم البؤس والنكد والكراهية والحرمان.

و"إذا الشعب يوما أغاظ الحياة...فلا بد أن يستشيط الحجر"

إغاظة الحياة سلوك همجي متوحش شرس فتاك بالخلق والتراب، وينجم عن تراكمات حرمانية وقهرية وتيئيسية ذات معطيات تدميرية قاسية، تتسبب بمتواليات من الجرائم البشعة بحق البشر والحجر، وتدفع إلى تداعيات تفاعلية خطيرة ومريرة في الواقع الذي تتحقق فيه.

وقد عانت البشرية مرارا وتكرارا من سلوكيات إغاظة الحياة، وآخرها ما حصل من بشائع إجرامية بحق الإنسانية في العديد من الديار العربية التي إستغاث منها الحجر.

وهذه السلوكيات الإيغاظية قد أسهمت بالتأسيس لمتواليات تفاعلية خطيرة لا يمكن الخلاص منها بسهولة، لأنها داعبت أوتار النفوس الأمارة بالسوء والبغضاء وسفك الدماء.

و"إذا الشعب يوما أغاث الحياة...فلا بد أن يستكينَ الكدر"

الإغاثة تعني المشاركة في تحقيق السعادة، والمجتمعات السعيدة هي التي تنزع لإغاثة أيامها وما فيها من موجودات ومخلوقات، فبسلوك الإغاثة يشعر المخلوق أنه في عالم يرعاه ويتحفز لنجدته ورحمته وإعانته على التواصل والجد والإجتهاد، والبشر وباقي المخلوقات فيها نزعة للإجتماع لكي تتحقق حاجاتها البقائية، وتؤسس لمنظومتها الدفاعية والتكافلية اللازمة للديمومة والتقدم والرقاء، وعندما ينتفي سلوك الإغاثة فأن الحياة تتدهور وينجم عنها نظام سلوكي قهري وتخيبي يؤدي إلى خسائر ذات وبال على الجميع.

وكذا يمكن تحقيق متوالية مترابطة ما بين (إذا) و (لابد)، وهي معادلة حياة صارمة منبثقة من قلب الكينونة الكونية المبنية على توازن أطراف معادلاتها بدقة وإحكام صارم، فطبيعة التفاعل في الطرف الأيمن تحتم النائج في الطرف الأيسر، وذلك ناموس خلقي وقانون أزلي قيّوم.

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم