تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

إلى الذين يهمهم التجميع العددي للقوى المدنية

احمد محمد جواد الحكيمهُم عـبدة الأرقام والنصوص، كما كان يفعل فيثاغورس بتقديسه للأعداد، الذين يبهرهم ويفتنهم ضخامة عدد الأشياء التي يتعاملون معها، لذلك نجد أن للعدد منزلة عالية في عنوانين بياناتهم وخطبهم. فهم يجتهدون في تجميع أكبر عدد ممكن من قوى مدنية حقاً، لكن ليس لديهم مانع بضم قوى أخرى تدّعي المدنية، دون النظر والتدقيق في خلفياتها وطبيعتها، وهو أمر محزن، لأن الشيء الذي يبحثون عنه هو عدد القوى، لا تكوينها. نظرة سريعة إلى بعض مكونات تجمع القوى المدنية، يظهر التناقض الواضح بين المعنى الحقيقي للمدنية، وتركيب هذه القوى وسياساتها وأهدافها وغاياتها. لا نريد في هذا المقال أن نسهب في تعريف المدنية وشروطها ومعاييرها، إذ يمكن الاطلاع عليها في المراجع ذات الصلة، لكننا سنذكر بعض منها التي لا تنطبق على قسم من مكونات تلك القوى التي وُصفت أنها مدنية. من هذه الشروط، التداول السلمي، ليس فقط للسلطة والحكم، إنما لزعامة وقيادة هذه القوى. ففي المجتمع المدني ليس هناك زعامة أبدية، وبذات الوقت ليس هناك زعامة تصل عن طريق الوراثة العشائرية ونحوها. والمدنية تمقت إثارة الكراهية والحقد وإثارة العداوات، بخاصة مع الذين نرتبط معهم بعلاقات وصلات طيبة، كما يفعل ذلك المدني الذي يصرخ ليلاً نهاراً بتقريع  بعض الأقوام والشعوب الأخرى. والمدني لا ينتقد الطائفية السياسية، وهو مشارك في النظام السياسي الطائفي. والمدني لا يحمي، في داره، المتّهمين والمطلوبين للدولة. والمدني لا تكون له تبعية وعلاقات مشبوهة مع مؤسسات أجنبية، أو بلدان معادية، كما زار ذلك المدني إحدى البلدان الغاصبة العنصرية.

والمدنية، ليست فقط رفع شعارات جميلة طنانة، والقيام بعقد اجتماعات فوقية عديدة، إنما هي الانخراط في عمل دؤوب يتطلب نشر الوعي والثقافة السياسية وتفعيل مفاهيم المواطنة. أضف إلى ذلك  أنها تتطلب تركيزاً كبيراً على الإنسان العادي، ومحاولة نقله من حالة الفردية الأنانية والمصلحة الضيقة، إلى حالة المواطنة والمصلحة العامة، التي يتمتع في كنفها بكافة حقوقه من ناحية، ومن ناحية أخرى عليه الإلتزام بالواجبات التي تفرضها عليه مواطنيته. والمدنية لا يمكن أن تتجاهل الجوانب الثقافية والاجتماعية والإقتصادية للمجتمع، وذلك بإجراء الدراسات والأبحاث التي تخص التغيرات في المجتمع، ومن ثم رسم الخطط اللازمة لإصلاحه وتطويره.

والمدنية تعني أن هناك سلطة عليا هي سلطة الدولة، يلجأ لها الإنسان عندما يشعر أنه قد وقع عليه ظلم أو إجحاف أو أن حقوقه قد انتُهكت، لا أن يلجأ للإحتماء بآخرين لهم نفوذ أو قوة. والمواطن في المجتمع المدني لا يُعرف بدينه أو قوميته أو منطقته أو طائفته أو حزبه، إنما يُعرف أنه عضو داخل المجتمع له حقوق متساوية بغيره من أفراد المجتمع. والمدنية تتطلب بذل مجهودات كبيرة كي يتم التعرف على وجهة نظر الشخص الآخر ومحاولة حل الخلافات بطريقة ديمقراطية. نعم المجتمع المدني يسمح لنا أن نشتبك في محاورات مع من نعارضهم في الرأي، لكن بشكل غير عدواني، وهذا يؤدي إلى محاولة التغلب على الخلافات عن طريق البحث عن مساحات مشتركة ومن ثم التحرك نحوها.

والمدنية تلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والإختلاف.

إذن المجتمع المدني هو النقيض تماماً مع طبيعة المجتمع البدوي، التي يولد فيها الفرد، منتمياً لها، مندمجاً فيها، مدافعاُ عنها بغض النظر عن صحة قراراتها أو خطأها، ومن ثم لا يستطيع الإنسحاب من هذا المجتمع.

في الختام، يتوجب على القوى المدنية النزول من أبراجها العالية والإلتحام بالجماهير الواسعة، بخاصة تلك الفئات غير المتبصرة، وتلك التي تنتشر فيها الأمية المعرفية والأبجدية، من أجل رفع مستوى الوعي والثقافة السياسية عندهم، بما فيها التركيز على الإعتزاز بالمواطنة أولاً، ومعرفة مسؤولياتهم في مجتمع ديمقراطي، وتشجيع مشاركتهم في الحياة السياسية. فضلاً عن ذلك ينبغي للقوى المدنية أن يكون لها تصوّر واضح وبرامج عملية، ليست نظرية مجردة، من أجل التغيير المنشود في جميع نواحي الحياة العامة، من إقتصادية وسياسية وتعليمية وثقافية وغيرها.

 

أحمد محمد جواد الحكيم

 

في المثقف اليوم