أقلام حرة
كم نحن بحاجة إلى نسخ من ثابت عبد النور!
"كان معي في الباخرة أربعة ركاب آخرون، شباب عراقيون من أهالي الموصل، قاصدين مثلي البصرة فبغداد هم: ثابت عبد النور، محمود الشهواني، رؤوف حمود داود. أنهم كانوا ضباطاً في جيش الثورة العربية ثمَّ في الجيش السوري. وعندما استولى الفرنسيون على سوريا الداخلية وحولوا الجيش وألغوا وزارة الدفاع وسرحوا الضباط انتقل هؤلاء مع مَنْ انتقل إلى عمان والآن يعودون إلى بغداد"، هذا ما ذكره ساطع الحصري في مذكرته.
وتذكر المصادر التاريخية أن حديثاً جرى بين ساطع الحصري والشباب الأربعة بشأن مستقبل العراق لاسيما في الحقل التعليمي والثقافي، ونصح ساطع الحصري الشباب أن ينصب عملهم في مجال التعليم ومكافحة الأمية.
وبغض النظر عن الجدل الذي يثار حول ساطع الحصري ودوره في التعليم والتربية في العراق سلباً أو ايجاباً فهو ليس محور مقالتي هذه بل ما أسعى إليه في هذه السطور هو "ثابت عبد النور" الذي تصفه بعض المصادر بالوطني وأخرى بالمختلس! ولم أبحث في الأدلة التاريخية أيّهما أقرب في الانطباق عليه، فهذا ليس مبتغاي، بل ما جذبني إلى سيرته ذلك الضوء المنبعث من تجربته الرائدة في تعليم الكبار ومحو الامية.
وللذي زاده قليل في تاريخ العراق الحديث والمعاصر، فإن ثابت عبد النور هو ذلك العراقي المولود عام 1890 في الموصل، والده عزيز عبد النور مسيحي معروف من اليعاقبة عمد باسم نيقولا، كان ضابطاً في الجيش الملكي لكنه هرب الى سوريا للالتحاق بالقضية الشريفية، وقد غير اسمه الى ثابت وقد جاء الى بغداد عام 1921.
إذ شرع ثابت عبد النور عند عودته للعراق بتأسيس المعهد العلمي العراقي للقيام بنشر التعليم بين أوساط المجتمع العراقي. وكانت مكافحة الأمية في مقدمة منهاج المعهد المذكور لخطورتها وأهميتها الاجتماعية والتعليمية، فدعا المخلصين من أصحاب الجاه والنفوذ للمشاركة فيه. وكان الافتتاح في الثلاثين من كانون الأول 1921، برعاية الملك فيصل الأول وحضور عدد من رجال الأدب والفن، أمثال: محمد مهدي البصير ومعروف الرصافي. واتخذت إدارة المعهد مقراً لها في محلة (جديد حسن باشا). ونشر المعهد في مطلع عام 1922 بياناً اوضح فيه كيفية الدراسة وطبيعة مكافحة الأمية، وطلب البيان من الوطنيين كافة حث الأميين للانتماء إليه.
ويؤكد بعض الباحثين نجاح هذه التجربة الرائدة في مكافحة الأمية لدى الكبار بالمراكز الليلية التي فتحت لإتاحة الفرصة لهم لمواصلة الدراسة والالتحاق بركب المتعلمين، ولم يقتصر فروع المعهد على بغداد فحسب بل كانت هناك مدارس له في مدن أخرى كالموصل والناصرية وديالى، وعلى الرغم من امكانيات المعهد المتواضعة إلا أنه نجح في فتح مدارس ضمت 2000 دارس من الأميين تعلموا القراءة والكتابة بمدة قصيرة لا تزيد عن شهرين.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن تمويل المعهد اعتمد ومنذ تأسيسه على تبرعات المواطنين والاشتراكات التي يدفعها المشتركون فيه، ومن العروض المسرحية التي كان يقيمها ويحصل على ريحها؛ فالمعهد كان له نشاطات ثقافية متعددة ولم يكن مقتصراً على تعليم الكبار فقط، فضلاً عن إعانات من جهات رسمية كانت تشكل مورداً مهماً لتمويله.
ونحن نطالع سِير هؤلاء.. ينتابنا فرح وفخر وزهو يطيرنا عالياً ما يلبت أن يهوي بنا في واد الخيبة والألم يعتصرنا لغياب مبادرات تحمل هذا العمق من الشعور بالمسؤولية والهمّ الجمعي!
السؤال الذي يطرح نفسه الآن..
كم نسخة نحتاج مثل ثابت عبد النور لمكافحة الأمية ولتعليم الكبار فضلاً عن الصغار؟! وكم نسخة يمكنها السعي للعمل الجاد والمخلص للنهوض بالواقع التربوي والتعليمي في العراق الذي تراجع بشكل ملحوظ جداً وعلى كل الأصعدة ؟!
لقد بات اليأس يضربنا بقوة من وزارة التربية وضعف متابعتها لمدارسها ومستوى ما تقدمه.. فهلا يتكفل الأمر مخلصون من أمثال ثابت عبد النور؟!
زينب فخري