أقلام حرة

إبن رشد وإبتعادنا عن الرشد!!

صادق السامرائيقامة فلسفية علمية فقهية حضارية، غرق في أرسطو وغاص في عقله وما أنتجه من أفكار فاستوعبها وترجمها وشرحها وجعلها قريبة لعقول جيله، لكنه لم يطورها ولم ينتقل بها إلى مستوى آخر، ولم يستفد منها في تطوير العقل العربي.

 وإنما كغيره من الذين سبقوه وجاؤوا بعده، عاد إلى قراءة النص القرآني، وكأنه أهمل نشاطاته العلمية ومناهجه في التفكير العلمي، وركز على التأويل وأخضعه للرؤية الفلسفية وأسهب في الشرح والتعبير عن هذا التوجه الذي أورده المصاعب.

قد يقول قائل إن من حقه أن يفعل ذلك لأنه فقيه وقاضي قضاة أبا عن جد، وأنه عالم دين بارع، لكنه ألف في الطب والفلك وأسهم في النهضة العلمية، فلماذا لم يضع لها أسسا ومناهجا ويفعلّها في الوعي العربي بدلا من التركيز على النص القرآني؟

قد يدافع مَن يدافع عن هذا الإتجاه، لكن الوقائع تشير إلى أن إبن رشد قد تم نفيه تماما عن الوعي العربي، وتحقق دوره وتأثيره في الواقع الغربي، لأن الغرب إستخلص مناهج التفكير العلمي من طروحاته، وتعلم آليات التفكير الحضاري والفلسفي وطورها، وإنطلق منها إلى مدارات أوسع وآفاق أرحب، فتطور وتنور وإنطلقت ثورته التنويرية والعلمية.

فإبن رشد في عصره مات في موطنه وعاش في مواطن الآخرين.

فلماذا لم يكن له تأثير تنويري في بلاد العرب كما كان له في بلاد الغرب؟

سيرد على هذا السؤال كثيرون بتبريرات وتفسيرات لا قيمة لها ولا معنى، إلا لإقناع أنفسهم وإلقاء اللوم على المجتمع والسلطة والدين ومَن يمثله.

وفي الغرب الحالة ذات دين وتطرف وسلطة كنيسة، لكن إبن رشد أنار وأطلق قدرات العقل الغربي، لأن مناهج التفكير هي الأصل، وليس الإغراق في التصدي للنص القرآني.

وفي الوقت الحاضر هناك دعاة لإعادة إبن رشد، ويحسبون أنه الحل وعنده الجواب على الأصولية والتطرف وغيرها، وفي هذا رجوع لا تسمح به إرادة الزمان.

فالذي لم يستطع التنوير في زمانه لا يمكنه أن ينير في غير زمانه مهما توهمنا، لأن الدنيا تتغير والواقع يتبدل.

فالأرض تدور وعلينا أن ندور معها رغما عنا فنتطور، ومَن لا يؤمن بالدوران  لا يمكنه أن يتفاعل بإيجابية مع الحياة.

وهذه الدعوات لإحياء إبن رشد من جديد دعوات ورائية تغفل أنه قد عاش قبل أكثر من ثمانية قرون، والمطلوب منا أن نعيش عصرنا ونتفاعل مع مستقبلنا بآليات ومناهج العصر، التي خلاصتها البحث العلمي والتفكير العلمي والإيمان بالتكنولوجيا وتقنيات العصر المعلوماتي المتوقد القدرات والإبداعات.

إن دعاة الذي مضى ولم يؤثر في عصره العربي، إنما يريدون الرجوع إلى مواطن تعطيل العقل، والقضاء على قدرات النهوض والتفاعل الإبداعي مع مفردات الواقع الإنساني، التي تتفاعل بآليات علمية متطورة وذات نتائج عملية مؤثرة في مسيرة الحياة.

فعقلانية وإقترابات إبن رشد لم تنجح في وقتها، فكيف لها أن تنجح في عصرنا، فلا يمكننا إلغاء المسافة بين القرون الوسطى والقرن الحادي والعشرين بثوراته المعلوماتية والتنويرية المطلقة،  وإفتراض أن الأمة تعيش في تلك القرون، ففضاءات العقلانية المعاصرة غيرها في القرن الثاني عشر والثالث عشر، فإبن رشد يعيش في ذمة التأريخ كومضة تنويرية، ولا يمكنه أن يعيش في قلب العصر.

فهل من إدراك حقيقي لجوهر المعضلة العربية المناهضة للعلم والتفكير العلمي، بدلا من التخبط في الورائية والرجوعية، والتوحل بالغابرات.

وتحية لإبن رشد الذي أحيا فينا روح الجرأة العقلية والإقدام على السؤال!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم