أقلام حرة

العَلماني كافر وزنديق!!

صادق السامرائيما أن تذكر كلمة عَلمانية أو عَلماني حتى تتغلق الأذهان وتُرمى بالكفر والزندقة، والعدوان على الدين والمذهب والطائفة والمعتقد، الذي يحسبه أصحابه هو الدين ولا غيره من معتقد أو دين، وكلٌ يغني على ليلاه وبلسانها، ولا يريد أن يسمع ليلى أخرى عدا ليلاه، وتلك مصيبة البشر الأزلية التي إفتتحها قابيل حسب المرويات وترجمها بقتل أخيه هابيل.

العَلمانية مفهوم مشوه في الوعي العربي الجمعي، ولا يمكن للقائلين به أو الداعين إليه أن يبرهنوا غير ذلك، لأنه موضوع في تابوت الكفر والزندقة واللعنة على العلماني والعلمانية لأنها تنكر الدين، هذا ما هو راسخ في الوعي العام.

بينما العَلمانية تبدو وكأنها آلية توفيقية ما بين المعتقد البشري والدولة التي يعيش فيها، ويريد التصالح مع نفسه وغيره وما يراه ويعتقده، وقد واجه الإنسان هذا التحدي منذ القديم، وفي القرآن يمكن القول بأن سورة الكافرون فيها ما يشير إلى المعنى الملخص في " لكم دينكم ولي دين"، وفي المرحلة الأولى للصراع الحامي ما بين الدولة والدين، أدى الخلط بينهما إلى تفاعلات تدميرية بين المسلمين أنفسهم إبتدأت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وما تلاه من تداعيات وحروب دامية ومؤلمة، ذهب فيها خيرة عقول الأمة وجهابذة فكرها ووعاة دينها.

وأدى الصراع القاسي ما بين المسلمين إلى التوصل إلى ما يمكن تسميته بالعَلمانية، التي إنطلقت مع نشوء الدولة العربية حيث تحقق إجتهاد متوافق مع زمانه ومكانه، وتشكلت الدولة وفقا لأسس السلطة لكنها ذات مسؤولية دينية، بمعنى أن تحافظ على الدين أو تحكم بإسمه، وهذا ليس بجديد على البشرية، لأنها قد أسست دولا وإمبراطوريات يكون الحكم فيها مؤزرا بإرادة دينية أو إلهية، وهذا واضح في حضارات وادي الرافدين والنيل وغيرهما.

فالسلوك العلماني بمعناه التفاعلي العقلاني النسبي مع الواقع المكاني والزماني قد تحقق دوما في المسيرة البشرية وتأكد كنظام حكم، يؤسس لدولة ذات قوانين وضعية ودستور للحفاظ على كينونتها التفاعلية، وبين ما فيها من أديان ومعتقدات متنوعة، وعلى هذا النهج سارت الدول التي حكمت وكانت ذات دين، إلا فيما شذ وتطرف وأوغل في الدوغماتية (إمتلاك الحقيقة المطلقة)، كما حصل في أوربا في العصور المظلمة عندما توهمت الكنيسة بما توهمت به وعملت بموجبه لقرون قاسية مروعة.

وبعد أن تنورت أوربا وأيقظت عقلها تعلمت كيف تكون علاقة المعتقد بالكرسي، وأدركت أن الدولة دولة ذات مناهج، والدين دين وله طقوسه ومراسيمه وتعبيراته، التي تحدد العلاقة ما بين المتدين وما يؤمن به ويراه.

أي أن البشرية بعد صراعاتها الطويلة والمريرة، أدركت أن التغيير قانون كوني وهو الحقيقة المطلقة والثابتة، ولا يوجد غيره ما هو ثابت، بل كل موجود مهما كان نوعه يتغير ويتبدل مع دوران الأرض، ووفقا لإرادة الدوران ونواميس الأكوان، فأن القول بالمطلق أصبح من قبيل الوهم، ولا بد للبشر أن يتعلم التفاعل المتجدد مع معطيات الدورات والتبدلات المرهون بها.

ولهذا فأن الحياة محكومة بما هو نسبي ومتغير، ووفقا لذلك فالعَلمانية بمعناها الأصدق والعملي هي التعبير عن هذا التغيير المتواصل والفاعل في الموجودات الأرضية والكونية.

أي أن العَلمانية ليست كفرا أو ضد الدين، وإنما آلية للتعبير المعاصر والإنساني عن الدين في منظومة الدولة التي يكون فيها أكثر من دين.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم