أقلام حرة

رشيد رضا وأفول الاجتهاد الحر في الفكرة الإصلاحية الإسلامية (1-2)

ميثم الجنابيليس مصادفة أن يسعى رشيد رضا(1865-1935) إلى محاكاة محمد عبده في كل شيء، بمعنى الانطلاق مما توصل إليه في كيفية تطويع الفكرة الإصلاحية وانتهاءا بولع التفسير. لكنها شأن كل محاكاة لم يكن بإمكانها أن تكون أكثر من ترديد لبعض الأفكار والقيم والمفاهيم. مع ما ترتب عليه من إهمال للعقدة الجوهرية المميزة للفكرة الإصلاحية آنذاك، والمقصود بذلك كيفية حلها من أجل دفعها صوب تمثل حصيلة الانقلاب الهائل في التاريخ العربي والإسلامي آنذاك، أي تمثل الصيرورة الجديدة للعالم العربي بعد انحلال العثمانية ومن ثم طبيعة ونوعية الانقلاب الهائل في فكرة الأمة والدولة والمجتمع والقيم السياسية والمستقبل. ولم تكن هذه الحالة معزولة عن تداخل طبيعة الانقلاب التاريخي بعد انحلال العثمانية وما ترتب عليه من تحلل كل "الإرث الإصلاحي" وإشكالاته التقليدية وقيمه ومفاهيمه من جهة، وعدم قدرة رشيد رضا على إعادة توليفه بطريقة تكفل له إمكانية التكامل في منظومة قادرة على الاستجابة على استكمال مهمة الإصلاح الإسلامي في الظروف الجديدة، من جهة أخرى. بمعنى تداخل الشروط الجديدة التي رافقت الانقلاب الراديكالي في التاريخ الواقعي للعالم العربي، والإمكانية الفكرية والنظرية المحدودة لرشيد رضا وطابعه التقليدي أيضا. فقد ولد رشيد رضا في قرية القلمون من طرابلس الشام. وينتسب إلى بيت "سادات" و"أشراف"، وينحدر من "أهل العلم والإرشاد والرياسة"، كما يقول هو عن نفسه. فقد كانت هذه المقدمات تحتوي في ذاتها على رصيد نفسي وفكري واجتماعي يختلف كبير الاختلاف عما كان مميزا لشخصية الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي. مع أن آفاق الشخصية والاحتمال الكامن في تفتحها اللاحق يبقى في نهاية المطاف أقرب إلى لغز الحقيقة والتاريخ والطبيعة. لكنه شأن كل لغز عادة ما تبرز حقائقه في وقائع الحياة الشخصية ومآثرها النظرية والعملية، ومن ثم تأثيرها الفعلي في مسار التاريخ الواقعي للدولة والأمة والفكر.

فإذا كان الأفغاني ومحمد عبده قد ترك كل منهما بطريقته الخاصة أثره الهائل والفعال بالنسبة لإثارة ذهنية الإشكال في كل ما تناولاه من وقائع وحقائق وآفاق، فإن رشيد رضا لم يترك في الواقع لنا غير كمية هائلة من المعلومات والمفاهيم والقيم والتقييمات المحنطة في المجلدات الضخمة "للمنار". وبالتالي فإن قيمتها النظرية والعملية تقوم في ما تحتويه مومياء الآثار القديمة، أي تقديمها المادة الضرورية لرؤية المتحجرات التاريخية للفكر والواقع. وقد كان ذلك انقلابا بائسا لحد ما بالنسبة لتاريخ الفكرة الإصلاحية الإسلامية، لكنه جزء في الوقت نفسه من مصيرها التاريخي الذي لا يخلو بدوره من دراما المعاناة الفكرية والروحية والحياتية لرشيد رضا ونيته الخالصة في الإصلاح.

فقد تبلورت شخصيته الفكرية والروحية تحت تأثير التقاليد الصلبة لفكرة الإصلاح المتجمدة في عرف الكنوز الإسلامية المختبئة وراء أمهات الفكر المعزولة عن التاريخ والمعاناة الحية للواقع. وقد أشار رشيد رضا نفسه إلى هذه الحالة عندما وضع كتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي في مركز أو صدارة مصادره الفكرية. بل وشدد على ما في (إحياء علوم الدين) من أثر هائل وتأسيسي بالنسبة لبلورة شخصيته العلمية والعملية، أي لرؤيته الإصلاحية. وليس غير المصادفة المغرية التي عثر عليها في (العروة الوثقى) للأفغاني ومحمد عبده من استطاع انتشاله من فكرة الإصلاح القديمة ونقله إلى فكرة الإصلاحية الإسلامية الجديدة. بمعنى نقل شخصيته المتراكمة ضمن تقاليد وعادات اللاهوت والعائلة التقليدية إلى عالم الحياة الصاخبة بمشاكل المجتمع والدولة والأمة. وقد كان ذلك يعادل حالة الانتقال من تقاليد الأخلاق الفردية والروحية إلى تقاليد الحياة السياسية والاجتماعية المهمومة بفكرة المصالح الكبرى والعامة. ولم تزل هذه المعادلة تفعل فعلها في شخصية رشيد رضا حتى موته. لكنها لم تثمر عن تحول نوعي قادر على التكامل في منظومة فلسفية سياسية إصلاحية شاملة.

فهو نفسه يشير إلى أن أحد الأسباب التي جعلته "يبتعد" عن تفكير الغزالي هو رفضه لاستعمال الغزالي المتنوع والمتكرر والدائم للحديث "الضعيف" وكذلك "ترك أقوال الصوفية". بحيث نرى خلو كتاباته اللاحقة عن شخصية الغزالي وآراءه. وقد كان ذلك يحتوي بحد ذاته على تقدم في ما يتعلق بالتحرر من أثر القدماء، لكنه لم يكن في الواقع سوى نكوصا فكريا عميقا. فقد رمى غموض الغزالي وما أبدعه من قيم كبرى ذائبة في منظومة الرؤية وأسلوبها النقدي وأعماقها الفلسفية. واستعاض عنها بوضوح التقاليد السلفية للحنبلية المتشددة. وإذا كان تأثره اللاحق بالأفغاني ومحمد عبده عبر (العروة الوثقى) قد نقله أيضا من الشام إلى مصر، فإن ذلك لم يغير تناسب المكونات أو العناصر الفكرية في رؤيته الجديدة. بمعنى ميلها صوب إعادة توحيد وتنظيم الرؤية اللاهوتية التقليدية وتطبيقها تجاه القضايا الكبرى الجديدة التي أخذ العالم العربي بمواجهتها. وبالتالي، بقاء أفضل وأكثر آراءه تقدما ونضجا مجرد أجزاء متناثرة لا يربطها شيء غير تنوع تجاربه الشخصية.

بعبارة أخرى، إن التجديد والإصلاح لم يتكاملا في منظوم فكرية، بقدر ما أصبحا فريسة الاجتهاد العابر لزمن الأشياء والأحداث. إذ لم يكن ما اسماه بادراك "أسباب الخلل" بعد مطالعته لمقالات (العروة الوثقى) سوى مصادفة ما كان يعتمل في أعماقه، أي انه لم يكن نتاج معاناة فكرية متربية في تأمل ونقد مدارس الفكر والتجارب التاريخية. وهو السرّ القائم وراء انتقاله الخفي والسريع صوب الحنبلية في أحد أشد أشكالها سلفية وتحجرا. في بادئ الأمر صوب ابن تيمية وفي آخر الأمر صوب الوهابية!

ونقف هنا أمام انقطاع خفي أو تعثر جوهري يقوم في الدوران من تقليدية إلى تقليدية عبر المرور بالفكرة النقدية والواقعية للإصلاحية الإسلامية. مما أدى إلى أن تكون الفكرة الإصلاحية مجرد عتلة لحمل أثقال التقاليد القديمة دون تجاوزها وتذليلها التاريخي والفكري الشامل. فقد كان انتقاله من ميدان الدين واللاهوت الضيق إلى ميدان الحياة العامة انتقالا جزئيا، أي بلا تراكم نقدي للفكر والتاريخ قادر على رفعه إلى مصاف المنظومة الفكرية الفلسفية. فعندما نتأمل ما قاله بهذا الصدد عن تقييمه لتجربته النقدية الأولى في ميدان الفكر النظري، فإنها تتطابق مع ما وضعه في (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) قبيل انتقاله إلى مصر عام 1897-1898. وهو نقد يحتوي على تجاذب وتصارع أهواء الانتقال إلى الرؤية الإصلاحية التي مثلّها الأفغاني ومحمد عبد والكواكبي من جهة، واستعادة تقاليد الإصلاحية السلفية بالرجوع إلى الحنبلية المتمثلة في ابن تيمية قديما والوهابية في زمنه، من جهة أخرى. ووجد هذا التذبذب التعيس مظاهره في مستوى التنظير العقلي والمواقف السياسية. وفيها أيضا ينعكس الانقلاب المعكوس لرؤية التجربة التاريخية للعالم العربي ومسار الفكرة الإصلاحية الإسلامية وكذلك المسار الشخصي لتجربة رشيد رضا نفسه.

فقد قلب في مساره الشخصي الفكرة الإصلاحية وتجربة أستاذه محمد عبده، بحيث جعل منه في نهاية المطاف مومياء محنطة تحت أضواء منار خافت في ظلام الصعود الدامس لغيب المستقبل العربي. إذ حصل رشيد رضا على موافقة محمد عبده في إنشاء (مجلة المنار) ودعم فكرة التفسير. وسار باتجاه الأسلوب الذي توصل إليه محمد عبده عن ضرورة الابتعاد عن القضايا السياسية. لكن إذا كان الابتعاد عن السياسة بالنسبة لمحمد عبده هو خاتمة الممارسة السياسية، بمعنى أنها نتاج تراكم في الخبرة والمعرفة والعمر، ومن ثم لها قيمتها ووظيفتها العملية (السياسية)، فإنها كانت ليست طبيعية بالنسبة لرشيد رضا. وذلك لأن الانهماك السياسي في مقتبل العمر هو الطريقة المثلى لتراكم المعرفة النظرية وتوسيع مدى التجارب التاريخية للأمم. الأمر الذي جعل من انتقاله اللاحق إلى السياسة بوصفها ميدان ومحك الأفكار النظرية فعلا طارئا أو بأثر الإجبار السياسي. ونعثر على ذلك في التقييم الفكري والسياسي الذي وضعه رشيد رضا في موقفه من حياة وسيرة وتجارب الشيخ محمد عبده. إذ نراه يتأمله من خلال النظر إلى ما كتبه كرومر الحاكم البريطاني لمصر حينذاك، وليس من خلال التأمل الشامل لتجارب محمد عبده العلمية والعملية .

إذ يشير في تقييمه لمحمد عبده، إلى أن مصر خسرت بموته خسارة عظيمة. وأن تأثيره ضعيفا في مصر، وأوسع في الهند وغيرها. وأن أتباعه في مصر صادقون أذكياء لكنهم قليلون. وأسلوبهم في الإصلاح أشبه بأساليب الجيرونديين في الثورة الفرنسية (أي المعتدلون). وأن الفكرة الإصلاحية عند محمد عبده وسط بين أولئك الذين تفرنجوا (المقلدون للغرب) وبين المحافظين. وبالتالي فهي وسط. من هنا تعرضها لانتقاد الطرفين. وبالتالي، فإن الزمن وحده من سيكشف عن قيمة فكرته الإصلاحية.

إننا نقف هنا أمام عبارة إنشائية، شأن ما كان مميزا لأغلب كتابات المرحلة، تجعل من إشكاليات التاريخ الفكري وتطور الفكرة أو مصيرها التاريخي مجرد لعبة صغيرة. وحالما تحاول تثمين أو تقييم المأثرة التاريخية للفكرة الإصلاحية عند محمد عبده، فإنها تجعل منها في الواقع جزء من تصوراتها الخاصة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار نكوص أو تخلف الفكرة الإصلاحية عند رشيد رضا، من هنا تخلف ونكوص المحتوى الحقيقي لإبداع محمد عبده في التأويل الجديد لتراثه الفكري ومواقفه العملية. ففي معرض رده على من اسماهم بالمحافظين، اعتقد رشيد رضا بأن خطأهم كان يقوم في سوء ضنهم بالشيخ محمد عبده. إذ اعتبروا ما عنده نصرة لمذاهب الفلاسفة والمعتزلة(!) أما في الواقع فإنه كان ينصر مذهب السلف على كل مذهب يخالفه. بعبارة أخرى، انه أرجع مضمون النقاش الفكري وغايته في كتابات محمد عبده إلى مجرد نصرة "مذهب السلف" بالضد من الفلاسفة والمعتزلة! بينما كان المضمون الفعلي والمجرى الفكري والمأثرة التاريخية للنقاش والجدل والتأسيس والفكري لمحمد ليس في الذبّ عن السلف، بل نقد التقليد. ذلك يعني، أن العقدة السلفية المختبئة وراء عقيدة رشيد رضا في رؤيته للإصلاح قد حوّرت وحوّلت بصورة تدريجية مضمون وغاية ووظيفة الفكرة الإصلاحية عند محمد عبده. والشيء نفسه يمكن رؤيته على سبيل المثال في تعليقه على ما كتبه كرومر عن محمد عبده والأفغاني. إذ نراه يقيّم عاليا أراء ومواقف كرومر تجاههما مع ما فيها من بواعث الامبريالية البريطانية آنذاك. فقد كان كرومر يعتقد بأن خطأ وخطيئة الأفغاني تقوم في اشتراكه بالسياسة، على عكس محمد عبده الذي استفاد من نتائج هذه التجربة التي أدت به إلى الانتقال صوب إصلاح الفكر فقط. وإن الحركة الإصلاحية (الإسلامية) مفيدة للانجليز لأنهم بحاجة إلى قوى اجتماعية مصلحة، وذلك لأن غاية الاستعمار الأوربي هو الكسب فقط. والكسب يحتاج إلى إصلاح وعمران!! وعوضا عن أن يجري نقد المضمون السياسي والتاريخي الخاطئ والمشوه لحقيقة الفكرة الإصلاحية بوصفها نتاجا تاريخيا تلقائيا يتسم بقدر هائل من المعاناة الذاتية، ومن ثم جزءا عضويا وضروريا للتطور الذاتي، يصبح "مفيدا" للانجليز لأنه يستجيب لمساعيهم الاقتصادية والثقافية. وهنا تصبح الإصلاحية الإسلامية لعبة أو دمية أو وسيلة تخدم المصالح البريطانية آنذاك في احتلال مصر وغيرها. وإن خطأ الأفغاني يقوم في توعيته المجتمعات الإسلامية آنذاك بمهمة التحرر الذاتي ورمي نير الاحتلال الأجنبي والسعي لتقوية الإرادة الخاصة في البناء الذاتي. بينما فضيلة محمد عبده تقوم في إدراكه لخطأ هذه الأسلوب (السياسي) في الإصلاح. وهو تشويه لحقيقة الفكرة السياسية عند محمد عبده.

لكن رشيد رضا يسير هنا في خطى كرومر. بمعنى انه يرى فضيلة الفكرة الإصلاحية في شخصية محمد عبده تقوم في استقراره آخر عمره على أهمية الإصلاح الديني والاجتماعي واللغوي وترك السياسة. ومع أن رشيد رضا يشدد بصورة سليمة على أن الاهتمام الأولي عند محمد عبده بالسياسة كان مبنيا على قاعدة مقاومة الاستبداد وجعل سلطة الأمة في أيديها، إلا أن هذا التقييم أقرب إلى تقرير الوقائع منه إلى تنظيم حقائق الفكرة الإصلاحية عند محمده عبده والأفغاني أيضا. وينطبق هذا في الواقع على كل آراء ومواقف رشيد رضا. بمعنى تجزئته الفكرة الإصلاحية وإرجاعها إلى مواقف تقترب أحيانا وتبتعد أحيانا أخرى من المسار العام للفكرة الإصلاحية كما بلورها الأفغاني ومحمد عبده، مع هبوط عام في مستواها النظري واستعداد ذاتي لاستقرارها في مواقف سلفية عادية.

فعندما يتناول، على سبيل المثال، قضية ما يسمى بالتعصب الإسلامي، بوصفها إحدى القضايا الملتهبة آنذاك بفعل الهجمة الكولونيالية الأوربية، فإن ردوده كانت من حيث محتواها ومستواها لا تتعدى ترديد بعض ما سبق وأن وضعه الأفغاني ومحمد عبده بهذا الصدد . فنراه ينطلق من أن الشرق هو مهبط الأديان. وأن  كل ما في تاريخه من حروب بين الأديان وتعصب أقلّ عشر معشار ما وقع من أهل أوربا الذين اتحدوا باسم الصليب على إبادة المسلمين، أو ما وقع في حروبهم على الوثنيين أو ما بينهم. وبالتالي، فإن الفكرة الأوربية عن التعصب الإسلامي هي نتاج صيغة نمطية مبنية على أهواء أكثر مما هي وقائع أو حقائق. بل أنها تعكس من حيث الجوهر رسوخ فكرة ونفسية التعصب في الذهنية الأوربية. وذلك لأنها مبنية على أساس تعارض فج، مثل ذلك الذي يقول، بأن المسلمين يتعصبون للدين بينما أوربا لا تعصب دينيا فيها، وأن الشرق متعصب لأنه لا يعرف جامعة غير الدين، بينما أوربا تعرف الجنسية (القومية) والوطنية، وأن المسلمون متعصبون بينما لا يتعصب النصارى، وأن التعصب الإسلامي خطر على المدنية المسيحية ما دام القرآن موجودا، وأن ما يأخذه المسلمون ينبغي استرداده، وما يأخذه النصارى ينبغي أن يبقى بين أيديهم. ووجد في هذه المواقف أمورا تتعارض مع الواقع. والدليل هو عيش النصارى واليهود بين المسلمين، على عكس ما هو عليه الأمر بين النصارى. وكذلك انتشار المبشرين النصارى بين المسلمين بينما لا يوجد بالعكس، إضافة إلى وجود محاكم أهلية ومدنية إلى جانب الدينية عند المسلمين. بل ويقطع شوطا أوسع وأدق بهذا الصدد عندما يقرر، بأن مشكلة المسلمين والعرب هنا بالأخص، تقوم في عدم تعصبهم. من هنا اندفاعهم صوب الجامعة الإسلامية وليس الوطنية. وسبب ذلك يقوم في انه لا يمكن أن يكون في الإسلام تعصبا، لأن القرآن ينهي عن العدوان. وبالتالي، فإن الانطباع الخاطئ عما يسمى بتعصب المسلمين هو نتاج أهواء غلاة الأوربيين وجهال المسلمين وغوغائيهم، كما انه نتاج أسباب سياسية. وذلك لأن تأكيد بعض الأوربيين عن أن سبب تعصب المسلمين ينبع من مبدأ وجوب طاعة السلطان في قتل المخالفين، لا نصيب له من الصحة. وإذا حدث فإنه نتاج أو رد فعل على ما قام به النصارى زمن الحروب الصليبية. فقد أثارت تلك الحروب الضغينة والتعصب. بينما لا حقيقة في الفكرة القائلة، بأن التعصب للدين هو جزء من أصول الإسلام. انه وهم من أوهام الأوربيين. في حين أن مجرد التأمل البسيط وإلقاء نظرة سريعة على ما تكتبه الجرائد في أوربا عن الإسلام تكشف عن أن إثارة التعصب والتنفير هي في أغلبها من مواقف النصارى وليس بالعكس. ووجد انعكاس هذه الحالة الذهنية أيضا فيما اسماه بتعصب العرب والمسلمين الذين عاشوا أو درسوا في أوربا مقارنة بأقرانهم. لكن ذلك لا يمنع ولا يتعارض مع رغبة المسلمين في أن يكون حكامهم منهم. فالأجنبي متسلط بالضرورة. ومن طبيعة البشر وفطرتها مجبولة على النفور من التسلط والاستئثار بالمنافع. وإن الشخص المتسلط منفرا للبشر حتى وأن كان متفق معهم في اللغة والجنس والدين والوطن، فما بالك إن كان يخالفهم في هذا أيضا؟

لقد أراد رشيد رضا القول، بأن مثار التعصب أوربا وليس الإسلام. و"أن أهل الإسلام أصفى أهل الملل (الأديان) قلوبا وأسلم عاقبة"، وذلك لأن "الإسلام يهذّب الروح ويضعف التعصب حتى على المارق منهم". وإذا كان الأوربيون يتهمون المسلمين والعرب بالتعصب. فيا ليته كان صحيحا! أما العلاج الوحيد للتعصب فوجده في العدل والمساواة والتوفيق بين المصالح.

لقد ظلت هذه النماذج وأمثالها في الفكرة الإصلاحية النقدية لرشيد رضا أقرب إلى البقايا الحية والفعالة لصدى العناصر الجوهرية في تقاليد الفكرة الإصلاحية الإسلامية مثل النزعة النقدية، والرؤية الواقعية والعقلانية، والدفاع العميق عن قيم الانتماء الثقافي الإسلامي وغيرها من العناصر التي تراكمت في مجرى عقود من الجدل والبحث والتأسيس. بمعنى تراكمها في مجرى الصراع التاريخي العنيف آنذاك وفي خضم تياراته واتجاهاته المتصارعة. من هنا نموها التلقائي من حيث الشكل والمضمون والوسيلة. في حين تحولت في مجرى التحول العاصف في حياة رشيد رضا من التنوير الإصلاحي الإسلامي صوب النشاط السياسي إلى مجرد تفتيت لهذا التراكم. وذلك لأن كل آرائه ومواقفه لم تكن في الواقع أكثر من تجارب شخصية بحتة. بمعنى أنها لم ترتق إلى مصاف التأسيس النظري والرؤية المستقبلية. والسبب يكمن في وثوقها الشديد بتراث السلفيات المتنوعة وبقاءها المتشدد ضمن سياقها وأنساقها. ففي معرض مناقشته لظاهرة الاستبداد، فإن موقفه لم يتعد موقف المعارض له من حيث كونه يتعارض مع الفكرة العامة عن "الشورى". ولم تخل بعض ملاحظاته النقدية بهذا الصدد من دقة في ما يتعلق بالأصول التاريخية للظاهرة عندما يربطها بما اسماه بالانحراف عن مبدأ الشورى الذي رافق صعود الأموية.

كما تتحلى مواقفه النقدية بهذا الصدد برؤية واقعية تخرج من إطار التقاليد اللاهوتية عندما أخرج من حيث الجوهر عثمان بن عفان من سلسلة الخلفاء الراشدين في مجرى حديثه عن أن النموذج الإسلامي في إدارة شئون الدولة بعد النبي قد تجسد في سلوك أبي بكر وعمر وعلي فقط. وكذلك اعتباره الدولة الأموية خروجا على مبدأ الشورى ومن ثم أساس الاستبداد في الإسلام. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "بنو أمية أعداء بني هاشم في الجاهلية والإسلام. أنهم استبدوا عملا وما عتموا أن جهروا بالخروج على سنّة الإسلام في حكمه. بحيث نرى عبد الملك بن مروان يقول مرة من على المنبر "من قال لي اتق الله ضربت عنقه". فتحولت الحكومة إلى استبدادية" . واعتبر التاريخ اللاحق للدول الإسلامية تاريخ الاستبداد إلا فيما ندر. وتتوج ذلك في تاريخ المماليك وأخبارهم، ومفاسد بايات تونس المأثورة، ومنكرات دايات الجزائر، الذين كانوا يعاقبون بثلاث أما الخازوق أو رمي المرء من أعلى جبل قسطنطينة أو إغراء الكلاب الجائعة عليه. ونظر إلى تاريخ العثمانية (على الأقل في قرونها الثلاثة الأخيرة) على أنها مجرد مطاردة مستمرة لطلاب الإصلاح. بحيث نسمعه يقول، بأن "محاربة الأستانة للعلم الدين ومعاداتها للعقلاء والعارفين ليفوق ما يتخيله المتخيلون" . وإذ نراه يؤكد على أن حقيقة الشورى تفترض "الامتثال في سياسة الأمة وإدارتها لأمر أصحاب الرأي السديد، والمعرفة بالمصالح العامة، حتى لا يطمح بالاستئثار بالسلطة والاستبداد بالأمر" ، إلا أنها تبقى في الإطار العام أقرب إلى ترديد ما هو شائع في صيغ علم الكلام التقليدي والفقه الأكثر تحجرا. وقد تكون الملاحظة النقدية التاريخية الوحيدة الدقيقة لحد ما بهذا الصدد هو ربطه بين صعود ظاهرة محاربة الاستبداد بالتأثير الأوربي الحديث. بحيث نراه يشير إلى أن أعظم فائدة استفاد منها الشرق من الغرب (الأوربي) تقوم في محاربة الاستبداد. بمعنى العمل من "أجل استبدال الحكم المطلق بالحكم المقيد بالشورى والشريعة" . بل نراه يجد فيها فائدة كبرى من حيث إشارتها إلى "مرتبة البشرية العليا". وذلك لأنها "عبارة عن الارتقاء من حضيض الهمجية إلى أفق الإنسانية" . وليس مصادفة أن نراه يضع حتى الدور التاريخي والفكري والروحي الهائل للأفغاني ومحمد عبده في محاربة الاستبداد وراء تأثير الدور الأوربي بهذا الصدد. ذلك يعني أن آراءه ومواقفه وتقييمه لظاهرة الاستبداد تبدو بسيطة وساذجة مقارنة بما وضعه الأفغاني ومحمد عبده. كما أنها لا تقارن بما وضعه الكواكبي بهذا الصدد. وينطبق هذا في الواقع على كل ما تناوله من قضايا الفكر الكبرى المتراكمة في مجرى التطور التاريخي للعالم الإسلامي آنذاك والدولة العثمانية بشكل خاص.(يتبع....).

 

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم