أقلام حرة

الهمجية البشرية!!

صادق السامرائيكنت أتحدث في محاضرة عن تأريخ الطب وجذب إنتباهي ما رأيته من دهشة غامرة على وجوه الحاضرين، وكأنهم يستفيقون من غفلة وحلم بعيد، وتزاحم العديد منهم حولي بعد المحاضرة يستغربون مما ذكرت وكأنه خيال وليس حقيقة!!

فنحن نعيش في زمن يختلف عمّا سبقه ولا يمكن مقارنته بأي زمن مرّ على البشرية، بل أنه زمن قائم بذاته وكأنه لا يمت بصلة لأي زمان أو مكان!!

كيف يكون هذا القول معقولا؟

سألت الحاضرين عن عمر العلاجات الطبية الحديثة، فتسمر أكثرهم وما عرفوا الجواب!!

وغاب عن أذهانهم أن أول مضاد حيوي هو البنسلين الذي إنطلق قبل سبعة عقود، وبعده توالت المضادات الحيوية بأنواعها، فقبله لم يكن عند البشر غير مادة السلقا كوندين وأخواتها، وما ورثته من الطب الشعبي والعشبي عبر العصور.

فالبشرية إنطلقت بمشوارها الحضاري، الذي قطعت شوطا كبيرا منه، منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، أما قبل ذلك التأريخ فأنها كانت تعيش في عصور همجية مدثرة بالجهل والأمية والعدوانية الشرسة المدمرة، وتتطاحن بالحروب وتبيدها الأوبئة والأمراض والعاديات الطبيعية.

البشرية أمضت عمرها الطويل بهمجية مروعة بكل ما تعنيه كلمة همجية ، وبتوحشية قاسية، وما عرفت الرحمة والمحبة والإنسانية وروح التسامح والود والتفاعل الإيجابي بينها، بل السائد هو العدوان والإمعان في شراسة السلوك والإمتهان بأنواعه وصنوفه النكراء.

البشرية أخذت تعي المعنى الجديد للحياة قبل عقود، ودخلت في عصر العلم والمعارف والإعتماد على العقل قبل قرن أو يزيد بقليل، فما مضى كان ظلاما دامسا وتوحشا فتاكا، وتفاعلات دامية صاخبة لا ترحم، توجتها بحربين هائلتين في النصف الأول من القرن العشرين، ذهب بسببهما عشرات الملايين، ودمرت المدن الأوربية وأرتكبت الفظائع البشعة بحق الإنسانية.

فالسائد في السلوك البشري هو التوحشية والعدوانية، والغريب هو الرحمة والتسامح والتعاون والالفة والمحبة والأخوة والعمل المشترك.

ويبدو أن البشرية ستحتاج إلى قرون عديدة لكي تتحرر مما إنطمر فيها من الوحشية والعدوانية، فلا يمكنها أن تتخلص من سلوك متواصل متكرر لمئات الآلاف من السنين ببضعة عقود، لكنها قد تمكنت من الإقدام على خطوات ذات قيمة ومعنى وحضور في مسيرة الحياة.

فبرغم الحروب والصراعات القائمة لكنها لا تقاس بما عاشته البشرية في القرون السابقات، بل لا يمكن مقارنتها بما جرى في النصف الأول من القرن العشرين.

ذلك أن البشرية تمتلك أسلحة فتاكة وخارقة التدمير، لكنها تتحكم بها ولم تستخدمها إلا مرتين قبل سبعة عقود، ومنذ ذلك التأريخ وهي كاظمة لغيضها ومتحكمة بسلوكها وتجتهد في منعه من الإنفلات.

كما أنها أحرزت تقدما سريعا في مجالات لم تخطر على بال الأجيال، فصار التواصل ما بين الناس في جميع بقاع الأرض ممكنا وسريعا، وتفاعلت الرؤى والتصورات وإنطلقت المشاريع الساعية لبناء مجتمع إنساني عولمي كوكبي المواصفات.

ومع تلك الإنجازات الفائقة الأصيلة، فأن البشرية ستظهر فيها سلوكيات متوحشة هنا وهناك، وتفاعلات عدوانية قاسية، لكنها ستنتهي حتما وتتلاشى أمام تيار التفاعلات الإيجابية الهادرة في جميع الأوطان.

والخلاصة أننا نعيش بدايات عصر جديد لا زالت البشرية تتلمس خطواتها فيه، لكنها ستتمكن بعد حين من رؤية سكة مسيرها ومحطات أهدافها ومعنى أن تكون في مركبة واحدة تأخذها إلى مصير واحد، وذلك ليس ببعيد، وسيولد من رحم القرون الآتيات!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم