أقلام حرة

هل الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة (2)

محمود محمد علينعود ونستأنف الجزء الثاني من المقال السالف الذكر، فنقول:  إننا يجب أن نعترف بأن ظاهرة التأثير والتأثر بين الحضارات المتعاقبة، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة حقيقة لا شك فيها، إلا أنه يجب أن نميز بأن هذا التأثير تتعدد أبعاده تارة وتختلف مجالاته تارة أخرة . فتارة يكون التأثير من جانب السابق في اللاحق تأثيراً قوياً عميقاً وعلي درجة من الشمول تكاد تذهب باستقلالية المتأثر وهويته العلمية . ومن ثم تظهر العلاقة بين الطرفين في صورة تابع بمتبوع ومقلد بمبدع، وتارة يكون التأثير ضعيفاً في درجته محدوداً في مجاله، بحيث يظل كل من الطرفين : المؤثر والمتأثر محتفظاً بفردانيته واستقلال نظرته وفكره، ومن ثم تتواري معدلات التاثير فلا تكاد تظهر .

إننا لا ننكر أن الفلسفة اليونانية قد تأسست أصلاً وأساساً علي ما أخذه فلاسفة اليونان الفلسفة المصرية . ويبدو هذا التأثير واضحاً لدي طاليس وفيثاغورس وأفلاطون وجالينوس ... الخ، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن اليونانيين رغم تأثيرهم بالفلسفة المصرية كانوا مجرد نقلة ومقلدون لما كان لدي المصريين القدماء هذه الفلسفات .

هذا باختصار ما نختلف فيه مع جورج جيمس، إلا أنه للأسف لاقي جورج جيمس في كتابه هذا الذي بين أيدينا، نقداً شديداً من الدوائر المحافظة في الغرب لأنه ينزع عنها قناع ايديولوجيا تمجيد الجنس الأبيض، وجاء النقد حاداً من الولايات المتحدة الأمريكية التي تحلم بمجتمع أمريكي عظيم ونظام عالمي تهيمن عليه أمريكا – أي الرجل الأبيض – ورفضه اليهود أو أهملوه " لأنه يضع تراث مصر الحضاري في صدارة المؤثرات الحضارية، وهم القائلون اغتصاباً – أنهم صناع حضارة مصر، والقائلون تعسفاً إن الدور الأول والأساسي هو دور الساميين، وأنهم هم وحدهم هم الساميون ".

ولاقي الكتاب تمجيداً وإشادة في الدوائر الأوربية الداعية إلي التغيير وإلي نقد عصر الحداثة – أي نقد الغرب، والاعتراف بدور الحضارات الأخرى وتعددها، ورأوا في الكتاب حداً فاصلاً بين عهدين في دراسة الحضارة الإنسانية.

كذلك الحال في مصر صادف الكتاب قبل صدوره بالعربية عن المجلس الأعلى للثقافة سنة 1996 ترحيباً واسع النطاق وترقباً لمحتواه وإيماناً بدوره في النهضة الفكرية والعلمية، والمزيد من البحث والإثراء وصياغة وعي بالتاريخ يتسم بالمصداقية والأصالة والقدرة أو المنعة في مواجهة تحديات الغزو الثقافي، التي استهدفت زعزعة أسس الانتماء، سبيلاً لاطراد الهيمنة .

وينتهج " جورج جيمس " في معالجته لقضية التراث المسروق خلال أبواب وفصول هذا الكتاب منهجاً عقلياً نقدياً، وهو المنهج الذي يحاول فيه المؤلف جعل العقل قادراً علي تخطي ما هو شائع، وتجاوز الأمر الواقع من خلال مقارنته بصورة يرسمها الفكر المتطلع إلي أوسع الأفاق . ولو لم تكن لدي العقل تلك القدرة علي التخطي والتجاوز لكان ملكة عاطلة لا تمتاز بشئ عن تلك الحواس التي يقتصر إدراكها علي ما يقع في نطاق محيطها المباشر . والمؤلف علي أية حال يبدو من خلال منهجه في هذا الكتاب ممن لا يستطيعون تصور الفكر إلا مصحوباً بالنقد، وممن يؤمنون بأن النقد هو أعلي مظاهر تحقيق الفكر لذاته، ومن هنا كانت الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب نقدية ونقضية في صميمها، وهي في صميمها إنما تعبر عن وجهة نظر المؤلف الخاصة إلي المشكلات آلت يعالجها، وإن كان يأمل أن تتجاوز وجهة نظره هذه النطاق الفردي، إذ أنه يتمني أن يكون في الوقت ذاته قادراً علي إقناع الآخرين ما دامو يحتكمون إلي العقل.

قسم جورج جيمس كتابه إلى مقدمة وجزأين! يشمل الجزء الأول ثمانية فصول، والجزء الثاني فصلاً واحداً. وقدم خلال فصول الجزء الأول حججه وأسانيده على أسبقية الحضارة المصرية والفلسفة المصرية متمثلة في نظام الأسرار المصري على الفلسفة اليونانية. يقول المؤلف في فصل بعنوان "الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة": " كان اليونانيون يسمون تعاليم نظام الأسرار المصري "صوفيا" وتعني تعليم الحكمة". وقد انتقلت هذه التعاليم إلى جزيرة ساموس، ومنها إلى كروتون وإيليا في إيطاليا، وأخيراً من إيطاليا إلى أثينا في اليونان، وذلك عن طريق فيثاغورس والإيليين وفلاسفة أيونيا! ومن المعروف أن أيونيا كانت قلعة من قلاع نظم الأسرار المصرية كما يجب عدم إغفال أن الفترة الممتدة من حياة طاليس إلى حياة أرسطو "640 ق.م ـ 322 ق.م" كان فيها الأيونيون رعايا مصريين ضمن الإمبراطورية التي حكمت شمال آسيا وبحر إيجة كله. ومما يؤكد خلو التراث اليوناني من الفلسفة أن التاريخ يعرض الحياة والتعليم في القرون الأولى لفلاسفة اليونان باعتبارها صفحة بيضاء خالية من أي معالم أو إشارات! كما يعرض المؤلف أحداث التاريخ باعتبارها ضرباً من التخمين مما أعطى العالم فكرة أن فلاسفة اليونان باستثناء الثلاثة الأثينيين "سقراط ـ أفلاطون - أرسطو" ربما لم يكن لهم وجود البتة! وربما لم يعلموا أبداً المبادئ المنسوبة إليهم!

ويقع الفصل الأول من الجزء الأول، فيتناول مشكلة أن الفلسفة اليونانية ... " فلسفة مصرية مسروقة "، وفي هذا الفصل يغوص المؤلف في دراسة المجتمع المصري القديم وحقيقة أن نظام الأسرار المصري انتقل إلي جزيرة ساموس، ومن ساموس إلي كروتون وإيليا في إيطاليا . وأخيراً من إيطاليا إلي أثينا في اليونان عن طريق فثياغوس والأيليين وفلاسفة أيونيا المتأخرين، وبناء علي ذلك كانت مصر هي المصدر الحقيقي للتعاليم السرية، الأمر الذي يؤكد أن أي زعم ادعاه الاغريق القدماء ( خاصة أرسطو) في أنهم هم المصدر والمنشأ ليس فقط زعماً خطئاً مجافياً للحقيقة، بل قائماً علي دوافع تضليلية غير أمينة .

كما يوضح المؤلف في هذا الفصل، أن التاريخ يعرض فلاسفة ما قبل سقراط في صورة أشخاص مشكوك في وجودهم أصلاً، وأنه في ضوء تلك الملابسات يمكن القول أنهم لم يبدعوا فلسفة، مثلما الزعم بأنهم حقاً أصحاب ما هو منسوب إليهم، إلا أن يكون وصلهم بوسائل مثيرة للشك وخداعة .

كما بين المؤلف في هذا الفصل أيضاً، أن تصنيف الفلسفة اليونانية، كان اختلاقاً من أرسطو وإنجازاً لخريجي مدرسته، ولم تكن تلك الحركة مأذوناً بها من السلطة الحاكمة اليونانية التي اعتادت كراهية واضطهاد الفلسفة لأنها مصرية وأجنبية كما زعم البعض، وأن تنظيم وتوجيه وإدارة وتشغيل نظام الأسرار أعطي المصريين حق ملكية الفلسفة، فإن أي ادعاء من جانب اليونانيين القدماء، بأنهم أصحاب الفلسفة يجب النظر إليه باعتباره ادعاء غير مشروع وباطلاً ومضللاً.

وأما الفصل الثاني، فيخصصه المؤلف لمشكلة أن " الفلسفة اليونانية المزعومة كانت غريبة علي الإغريق "، وهو يوضح هذا بأن بين أنه إبان فترة الفلسفة الإغريقية (من طاليس إلي أرسطو)، كانت فتره حروب داخلية بين الدول – المدن ذاتها، وحروب خارجية ضد عدوهم المشترك – الفرس، وكان الإغريق ضحايا نزعات داخليه أبديه، وخوف أبدي من أن يقضي عليهم عدوهم المشترك، ولم يكن لديهم وقتاً ينذرونه لدراسة الطبيعة ومسائل الفلسفة .

كما يؤكد المؤلف في هذا الفصل أنه لم يكن لدي الإغريق القدرة لاستحداث وتطوير الفلسفة، وأن موت أرسطو الذي ورث كميه هائلة من الكتب عن مكتبه الإسكندرية والتي وصلته بفضل صداقته للإسكندر الأكبر، هذا الموت أعقب أيضاً موت الفلسفة الإغريقية التي سرعان ما تحللت وتحولت إلي نظام من الأفكار المستعارة الذي عرف باسم " التلفيقية " .

ويدلل المؤلف على أن الفلسفة كانت غريبة على اليونانيين فيقول: إن الفترة من طاليس إلى أرسطو كانت فترة حروب داخلية بين الدول / المدن ذاتها وفيما بينها وبين عدوهم المشترك الفرس! فكيف يتسنى بين هذه المخاوف والفتن والحروب أن تنشأ الفلسفة التي تحتاج أكثر من غيرها إلى الهدوء والسلام كما تحتاج إلى طبقة من ذوي الثراء والفراغ؟.

لم تكن العقبات التي حالت دون نشأة وتطور الفلسفة تتمثل في الحروب الأهلية المتكررة فقط "حرب البليبونيز "460 ـ 445 ق.م" و "431 ـ 421 ق.م" والدفاع المستمر ضد الغزو الفارسي، بل وأيضاً تعمد حكومة أثينا إبادة الفلسفة باعتبارها العدو الألد!! يورد المؤلف شهادة "إيزوقراط" التي يقول فيها.. "على الرغم من كثرة الشرور الطبيعية التي تحدق بالبشرية، فإننا أضفنا إليها الحروب والصراعات الأهلية ضد بعضنا البعض حتى بلغ الأمر حد إعدام البعض في مدنهم دون مبرر عادل فضلاً عن نفي آخرين مع زوجاتهم وأطفالهم!

واضطر كثيرون بسبب البحث عن طعامهم اليومي إلى الموت وهم يقاتلون ضد شعوبهم من أجل خاطر العدو"، أليس من الغريب أن يكون موت أرسطو! الذي ورث كمية هائلة من الكتب بفضل صداقته للإسكندر! موتا للفلسفة اليونانية أيضاً! إذ سرعان ما تحللت بعد موته وتحولت إلى نظام من الأفكار المستعارة والملفقة. الحقيقة أن الإغريق رفضوا الفلسفة واضطهدوها بسبب أنها وافدة من الخارج وتشتمل على أفكار غريبة لا دراية لهم بها. لهذا حوكم "أناكسوجراس" وهرب من السجن وحوكم "سقراط" وأعدم! ولاذ "أفلاطون" بالفرار إلى ميجارا ملاذ "إقليدس"! وحوكم "أرسطو" وهرب إلى منفى اختاره لنفسه، مثل هذه السياسة ستكون بغير معنى ولا هدف إذا لم تكن تشير إلى أن الفلسفة كانت غريبة على العقلية اليونانية.

أما الفصل الثالث فيخصصه المؤلف لمناقشه أن " الفلسفة اليونانية هي نتاج نظام الأسرار المصري " وفي هذا الفصل يقارن بين الأفكار الرئيسية لكل من نظام الأسرار المصري والفلسفة اليونانية، فيري أن هناك توافق تام بين النظرية المصرية عن الخلاص وهدف الفلسفة اليونانية، وهو أن يتشبه الإنسان بالله، وأن سبيله إلي ذلك التزام بنظام الفضائل ونظام تعليمي تربوي، كما أن هناك توافق كامل في المعتقدات والممارسات بينهما.

وأهم أهداف نظم الأسرار المصرية هو تأليه الإنسان! أي التشبه بالإله! وقد علمت الناس أن نفس الإنسان إذا ما تحررت من قيود البدن يمكن للمرء أن يصبح شبيها بالله! ويتصل بالأرواح الخالدة! ويعرف أفلوطين هذه التجربة بأنها تحرر العقل من وعيه المتناهي عندما يغدو متوحداً مع اللامتناهي! هذا التحرر ليس فقط حرية النفس من عوائق البدن، بل وحرية النفس أيضاً من عجلة التناسخ أو إعادة الميلاد. وقد اشتملت هذه التجربة على عملية متصلة من المجاهدات والرياضات لتطهير كل من الجسد والنفس. ويرى جورج جيمس أن نظام الأسرار المصري كانت له ثلاث مراتب "البشر الفانون" وهم الطلاب الذين يخضعون لفترة الاختبار ويجري تلقينهم العلوم وإن لم يعاينوا بعد تجربة الكشف الباطني. "الأذكياء" وهم أولئك الذين عاينوا تجربة الكشف الباطني وتلقوا العقل الكوني. "الخالقون أو أبناء النور" وهم الذين توحدوا أو اتحدوا مع الضوء أي تحقق لهم الوحي الروحي الحق. وهذه المراتب يسميها "و. مارشال آدمز" في كتابه "كتاب السيد" بمراحل: التلقين ـ الكشف ـ الكمال. لم يكن تعليم الطلاب يتألف فقط من تثقيفهم بالفضائل العشر بل يتألف أيضا من تلقينهم الفنون العقلية السبعة! كما كان هناك إذن خاص للالتحاق بنظام الأسرار الأعظم حيث يتعلم المريدون الذين أثبتوا كفاءة "فلسفة الخاصة"!

وبذا يتم تثقيف المريد ليصبح شاهداً حياً للعقل الإلهي القدسي أو الليجوسي، هذه هي النظرية المصرية عن الخلاص والتي تجعل المرء شبيهاً بالرب وهو على الأرض ومؤهلاً في الوقت نفسه للسعادة الأبدية. انتشرت مدارس تلقي الأسرار أو المحافل الصغرى في الأقطار الأخرى خارج مصر! وكانت تؤدي دورها وفقاً لتعليمات "الأوزيرياكا" أي المعبد أو المحفل الأعظم "معبد الأقصر في طيبة القديمة"! وكان كثيراً ما يشار إلى هذه المدارس باعتبارها مذاهب خاصة أو فلسفية أو طقوساً دينية سرية! مؤسسوها من مريدي نظم الأسرار المصرية. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم