أقلام حرة

تأويل وتقويل وتعويل!!

صادق السامرائيالتأويل: إعمال العقل في النص.

التقويل: إعمال النفس في النص، أي تحميله ما ليس فيه أو التوهم بأنه يقول بغير ما يبدو عليه ويحويه.

التعويل: الإعتماد

هذه حالات مأزقية تطغى على سلوك الأجيال وتتسبب بتداعيات مزمنة ومتعاظمة، ولا تزال مجتمعاتنا في دوّاماتها المتعضلة، تدور بعنفوان وتنزف ما فيها من روح الحياة والإنسان، ولا بد من تناولها بجرأة وروحية علمية وعقلية ذات تطلعات حقيقية، بدلا من ركنها على رفوف العواطف والإنفعالات، ورميها في أوعية الأحكام المسبقة القاضية بما لا يَصح في السلوك والأفهام.

أولا: التأويل والتعويل!!

لكل نص تأويل، وللتأويل تعليل، وللتعليل تعويل، والعيب ليس في التأويل، ولكن في الذين يعوّلون على التأويل ويتخذونه شرعة ومذهبا وطريقا منقطعا، ومَفازة متفردة في أصقاع المتاهات البعيدة.

النصوص وخصوصا الفكرية والدينية لا بد لها من التأويل المتوافق مع زمانها ومكانها ودرجات المواعي والمدارك والتجددات، فليس ما كان في زمن الآباء يصلح لزمن الأبناء، وليس ما يصلح في قارة ما يكون صالحا في قارة أخرى، فلكل مكان شروطة ولكل زمان ضوابطه، ولا يمكن الخلط والتوهم بثبات المعارف ومطلق التأويلات والتصورات والرؤى والتفاعلات.

وكل مؤوّل إنما يرى بمنظار ما فيه ولا يمكنه أن يكون متفقا مع آخر، لأن ما يحتوية يتباين مع غيره كتباين بصمات الأصابع، فالمؤول يستعمل عقله ويجتهد في سعيه وتنمية وعيه، وما يقوله قبل ربع قرن قد لا يتوافق معه  اليوم، ولو عاش أي مؤول وتعرض لمعارف غير زمانه لأوّل بأسلوب آخر، لكنه إجتهد وفقا لما يمتلكه من أدووات التمحيص والفهم والتحليل والمعرفة.

والمشكلة تكمن في المعوّلين على التأويل، أي الذين عطّلوا عقولهم وبحثوا عن أسهل السبل فاتبعوا المؤوّلين بإنقطاعية تامة، فتحولوا إلى ورقة بيضاء يكتب المؤول عليها ما يشاء في أي زمان ومكان.

والمجتمعات التي تنتشر فيها الأمية الشاملة تكون مؤهلة للوقوع ضحية في شِراك المؤوّلين، لأنها لا تعرف كيف توظف عقولها ولا تمتلك مهارات معرفية وثقافية ذات قدرات إدراكية حضارية المنطلقات والمحتوى، وإنما تميل للتبعية والإنغلاق والتدحرجية، وعدم الجد والإجتهاد، وتتهيب صعود الجبال، وتحاصرها الأوهام والتصورات المنحرفة التي تأخذها إلى حيث تكون طُعاما لكل أكّالٍ سبيغ.

فالتأويل من ضرورات حياة أي فكرة أو عقيدة ومن الطاقات اللازمة لتعصير دورها، والحفاظ على قيمتها التواكبية وقدراتها التفاعلية المتفقة وآليات عصرها ومرتكزات النماء والحضور الحيّ الوضاء، فكل عقيدة تريد البقاء والإستمرار لابد لها أن تمتلك المؤوّلين القادرين على تحرير نصوصها وتأهيل أفكارها لتتوافق مع زمانها ومكانها.

فالتأويل أوكسجين العقائد والأفكار والنظريات، وبفقدانه تفتقد مقومات الحياة، ويتمكن منها الإندثار ويتحقق فيها الغياب.

ومن عجائب ما يدور في الواقع المجتمعي أن العديد من ذوي المعارف، يهاجمون المؤوّلين ويتجاهلون المعّولين، الذين لا يعرفون إلا إتبع وتتبع، وينهمكون بالجهل اللغوي والمعرفي، ويؤهلون أنفسهم ليكونوا بضاعة رخيصة في مزادات الفئوية والتحزبية والطائفية والمذهبية وغيرها من شرائع الضياع والبهتان، التي تكلفهم خسائر جسيمة وخطيرة.

بينما من واجبهم أن يتوجهوا للمعولين ويتقدموا بتأويلات معاصرة ذات قيمة حضارية وإقتدارية، نافعة للحياة وآليات البناء وصناعة الجديد المتوجب للعزة والصلاح، ذلك أن التركيز على المؤوّل يزيد المعولين عليه تبعية وإصرارا على التمسك والإنغلاق والعزلة في كينونة رؤاه وما سطره في زمانه ومكانه، وبمداد ما إحتواه.

ثانيا: تأويلات وتحليلات!!

مشكلة الإسلام تأويلية تحليلية تفسيرية ذات نوازع وتطلعات ونوايا غير صالحة، بمعنى أن الدين يتم تحريفه وتطويعه لكي يحقق إرادات الكراسي والمنافع الشخصية اللازمة لتثمير المكاسب.

فالمفسرون والمؤولون والمحللون والذين يسمون أنفسهم "رجال دين "، وما يصرحون به " فتاوى"، إنما شأنهم شان الشعراء الذين أمضوا القرون يمدحون ويتكسبون بالمديح ؟

فالذين يفتون وفقا لآليات دينهم هواهم إنما يتكسبون بالفتاوى والرؤى والتحليلات والتصورات، والحيل التي تخادع وتبرر وتمرر الآثام والخطايا وتحلل الحرام، ومعظمهم في دياجير نفوسهم نداء " إعطني ما أريد وسأفتي لك بما تريد"!!

وهذه محنة المسلمين عامة والعرب خاصة، وفي التأريخ أدلة متراكمة تعزز مناهج وأساليب ما نسميه "فتوى".

فكم من حاكم وسلطان وجد معاشر من المتدينين يؤازرونه ويبررون مظالمه، ويتجاهلون جوره وإمتهانه للقيم الصحيحة، فيحرّفون كما يشتهون فيجعلون ما يقوم به هو الدين القويم.

ولازلنا نعيش ذات المحنة في زمن الأحزاب المؤدينة التي ترفع رايات الدين كل حسب ما يراه ويعتقده هو الدين، ورؤية وإعتقاد كل منهم ينبع من أفياض السوء المؤدلج المكبوس في دنيا النفس الدونية الظلماء  السوداء، التي تجعل الأبيض أسودا والأسود أبيضا.

وتزين لهم الباطل ليبدو حقا، وتمرغ الحق في أوحال البهتان والضلال ليرونه باطلا، وهكذا تختلط الصور وتتشابك المعايير ويحترق الأخضر بسعر اليابس، وتتحول بلاد المسلمين إلى خرائب تنعب فيها الغربان، وتجوبها الآفات والوحوش ذات النوازع الإفتراسية الشرسة.

بينما الإسلام واضح ساطع بسيط يسير يخاطب عامة الناس، فهو رسالة لكافة العالمين بفكرة جلية ولغة طرية، خالية من الغلو والتطرف والإسفاف في التعقيد وأهوال التآويل، التي جعلت الدين علة وعالة، وأسست لدور العمامة القعودية، أي التي تستلطف القعود في كهوف وخرائب وأجداث الغابرات، لتكون الحياة موتا والموت حياة.

ويفقد الزمن أبعاده وينحصر في نقطة ماضوية عفنة ذات آليات إستنقاعية مدمرة.

وهكذا تبدو الصورة في عالم كان الإسلام فيه نورا، فأضحى بأعمال الجهلة المرائين السييئين نارا ذات أجيج وفحيح!!

فهل تحوّل الدين إلى حَيْن؟!!

ثالثا: التأويلات الإرهابية للآيات القرآنية!!

"القرآن حمّال الأوجه"

تنتشر في وسائل التواصل الإحتماعي وخصوصا الفيس بوك تأويلات عجيبة غريبة، ومرتبة بأسلوب جميل وجذاب وبمفردات تستهوي الناظر إليها وتوقعه في شباكها، وهي مكتوبة بطريقة مدروسة ومحكمة ومقنعة جدا، ويبدو أن القائمين عليها من ذوي الخبرات السلوكية القاهرة.

ويتم تداولها ونشرها من قبل الكثيرين على أنها تعبيرات من آيات الذكر الحكيم!!

وقد حذر من هذه التأويلات المرحوم الوائلي حتى بحَّ صوته، ولا مَن سمع أو وعى وإقتدى، وإنما أكثرهم يسمعون القول ويحرّفونه أو لا يعونه، وينظرون إليه بنكران وخسران.

ويصلني العديد من هذه التحريفات والتأويلات الزائفة المغرضة الباهية، بطلعتها الجميلة وكلماتها المنمقة وحلّتها الجذابة المغرية، فألغيها وأنكرها، لأنها عسل فيه سموم وسموم لا يعلمها البشر إلا بعد أن تسري في أبدانهم وتساهم في قتلهم وترويعهم، وعندها لا ينفع التحذير من الخطر.

وما يحصل في أصقاع المسلمين منطلق من هذه التأويلات التدميرية التخريبية، التي تحلل القتل والسبي وإغتصاب الحقوق والممتلكات والمحق المروع لما يمت للحياة ويتفاعل معها بمعاصرة وإجتهاد.

ومما وصلني أن ناقة صالح قد عقرها واحد وتواطأ معه تسعة، لكن الصيحة شملت الجميع، ويدخل البوستر الجميل بألوانه ودقة كلماته وبتقديراته لتأثيراتها الفكرية والنفسية والسلوكية، ليستنتج أن قتل الأبرياء والآخرين الذين يمتون بصلة أيا كان نوعها للذي عقر الناقة أمر مقبول وصحيح، وإلا لماذا فعله الله!!

وجوهر الرسالة الكامنة في هذا التأويل الإرهابي، أنك يمكنك أن تجرّم مَن تشاء وكيفما تشاء، يمجرد أن تعلن أن هناك علاقة ما بين أي فاعل وما حوله من الناس الآخرين، وفي هذا القول تبرير لأفظع الجرائم التي حصلت في التأريخ، حتى جرائم هولاكو يمكن تبريرها، وفي الحقيقة هكذا كان يفكر هولاكو عندما قرر قتل مئات الآلاف من البغداديين، دون ذنب إلا لأن خليفتهم حسب منطوقه كان فاسدا وكنّازا للأموال ومبذرا ولم يثوروا عليه أو يوقفونه عند حده، وأن ربه أرسله عليهم لينزل عقابه فيهم.

وهذا يحلل إبادة القرى والمدن، لأن أحدهم هاجم الجيش المعتدي أو المحتل، كما حصل في الحروب العالمية والحرب الكورية والفيتنامية، حيث كانت تباد القرى بسبب أن أحدهم قد هاجم الجيش، أو رمى قنبلة عليه.

وفي واقعنا العربي يبدو أن هذه التأويلات الإرهابية أخذت تبرر وتسوغ وتعزز سلوكيات الكراهية والبغضاء والتطهير العرقي والطائفي، وفقا لما تنتجه الرؤوس المريضة وذوي العاهات النفسية والفكرية التي تأمر بالسوء وسفك الدماء.

وأمام هذه الهجمات التأويلية الإرهابية ذات التدمير القيمي والأخلاقي والديني الشامل، يقف العارفون بالدين وكأن الأمر لا يعنيهم، وأنهم يتركونها لله فهو الذي يتدبر بأحوال عباده ويحمي دينه، وفي هذا عجز ومساهمة سلبية في تعزيز الإنحرافات التأويلية والسلوكيات الناجمة عنها، وما تتسبب فيه من متواليات تفاعلية خطيرة ذات عواقب وخيمة وأليمة، وما تحمله من جرائم ضد الإنسانية!!

رابعا: الكفر والتكفير!!

مبعث هذه الكلمات توارد عدد من المقالات المكتوبة بأقلام مأجورة أو معادية للتأريخ العربي، وهي تسعى للتقليل من قيمة وأهمية الإسهامات العلمية والثقافية للعلماء الذين حملوا مشعل الحضارة العربية، وذلك بتكفيرهم وتحريم النظر إلى علومهم وكتبهم، وهي تستند على قال فلان وذكر علان، وكأن فلان وعلان هما الآوصياء على البشرية والدين، وما هم إلا كغيرهم من الذين حاولوا أن يتعلموا الدين وعلوم الفقه، لكن بعضهم ذاع صيته وصار ما يقوله فصل المقال، وهذا خطأ درجت عليه المجتمعات العربية والمسلمة، مما أضعف قدراتها المعرفية وعطل عقولها وإرادة البحث فيها.

فمن أنت لتكفر غيرك؟

وما هو علمك ومعارفك لكي تقضي ضد غيرك؟

ما هي مسوغاتك وحججك وأدلتك التي تعتمد عليها في هذا السلوك المخاصم لذاتك وموضوعك؟

لو نظرنا للذين يكفّرون غيرهم لتبين لنا أنهم يؤمنون بأن العقل البشري قاصر ونسبي ولا يمكنه أن يحيط بما هو مطلق حسب تصورهم، لكنهم في ذات الوقت يمنحون عقولهم صفة الإطلاقية ويجيزون لأنفسهم تكفير الآخرين، وتنزيه أنفسهم من الكفر، وما يقومون به هو الكفر بعينه.

وهم حَرْفيون أي يتمسكون بحرفية النص الديني وفقا لقولهم بنسبية العقل وعجزه عن إدراك ما هو مطلق، أو ما هو كلام الله وعليه أن يتقبله كما هو ولا يضعه تحت منظار العقل ولا يجوز له التأويل، بمعنى أن النص بما ظهر فيه وليس بما بطن فيه، وبهذا يحرمون أي قول عقلي تجاه النص الديني.

والعجيب في أمرهم أنهم يغفلون أو يتجاهلون سورة واضحة في القرآن هي سورة الكافرون والتي بنصها الحرفي تقول " يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما تعبدون، لكم دينكم ولي دين"

هذه سورة صريحة بنصها الدامغ، ولا تحتاج إلى تأويل أو تفسير، وهي قائلة بوجود الكفر والموقف منه، وخلاصته " لكم دينكم ولي دين".

فلماذا لم يقل ديني هو الدين وعلي أن أمحقكم لأنكم كفرة؟

سيؤولون ويقولون أنها سورة مكية في وقت ضعف الدين وكانت كذلك، فهذا تأويل، وإن قبلتم تأويل هذه السورة فعليكم أن تقبلوا أي تأويل للسور والآيات الأخرى، أما القول بالتمسك بالنص القرآني بحرفيته، فهذه سورة بحرفية ساطعة ودامغة، فلماذا يتحقق الإلتفاف عليها وإغفالها وكأنها غير موجودة في القرآن؟

لنفترض أنت صاحب الحق بتكفير غيرك أو ترى أنه كافرا لأنه لا يتبع دينك، ماذا تفعل تجاهه، إنه موقف واضح مسطور في القرآن ينص على سلوك " لكم دينكم ولي دين"، ولا نريد أن نأتي بآيات أخرى تنص على ما لا يجوز للبشر أن يكفر أخاه البشر، وأن الله يحكم بين الناس فيما كانوا به يؤمنون.

فلماذا لا تدعون البشر ودينه؟

ولماذا لا تعملون بجوهر دينكم وتعبرون عن إنسانية الدين ورحمته بدلا من إلصاق العدوانية وسفك الدماء به؟!!

فهل أنتم تدينون بدين أم تتاجرون بالدين؟!!

وعليه فأن من الواجب الإنساني والمعرفي، أن نصل إلى مرحلة إحترام العقل والرأي والتفاعل الفاضل الرحيم فيما بيننا، أيا كانت عقائدنا وتصوراتنا وتأويلاتنا، ولا بد أن يكون العقل حاضرا وفاعلا فيما نتصدى له من التحديات بأنواعها.

ووفقا لمقتضيات العصر وبديهيات ونواميس الأكوان علينا أن نلتزم بما تفرضه الحالة الزمانية والمكانية، وأن نقرأ الأحوال في كينونتها التي تحققت فيها، لا في حالة أخرى بعيدة عنها، فلا يمكن حشر الذي فات فيما هو قائم وقادم، فلكل كينونة بيئتها التي أوجدتها، والتغيير سنة الحياة، ولن تجد لهذه السًنة الأزلية تبديلا!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم