أقلام حرة

رحيل (الباشا) الفيلسوف

963 عبد الامير الاعسمكان مدني صالح الكبير كثير المدح لأستاذنا المرحوم (عبدالأمير الأعسم) رغم التباين الأيديولوجي والفكري بينهما، ولأنني جريء بأسألتي، ولأن مدني صالح الكبير أستاذي والمشرف على أطروحتي للدكتوراه، تجرأت لأسأله لماذا تمدح الأعسم كثيراً، فقال لي قولته الشهيرة: "الأعسم آوى الفلسفة بعد أن صارت شريدة"، وهو يقصد بقولته هذه أن بجامعة بغداد هُناك من حارب بعض طُلَاب الفلسفة النابهين بحكم جذورهم المذهبية أو الجغرافية، فلم يكن لهم ملاذاً آمناً لدراسة الفلسفة ولا خلاص لو لم يتمكن الأعسم بحكم علاقاته وارتباطاته برجالات الدولة من الصف الأول آنذاك من فتح قسم الفلسفة بجامعة الكوفة في كلية الآداب، وفتح الدراسات العُليا فيه خارج الضوابط المُتعارف عليها، فوجد من يرغب بدراسة الفلسفة من الطلبة "المنبوذين" مذهبياً بجامعة بغداد من استكمال دراستهم العُليا في قسم الفلسفة بجامعة الكوفة الذي فتحه الأعسم نلاذهم الأثير في استكنال دراستهم..

كان الكبير مدني صالح يُحاضر في هذا القسم لطلبة الدراسات العُليا، ومرة قُلَت له لماذا أنت تذهب بسيارة (الريم) من نوع (اسكانيا) للكوفة؟ وأعرف أن لا قيمة مالية كبيرة تتأتى من رحلتك هذه؟، فأجابني أنني أذهب للكوفة مدرسة الكلام واللغة والفقه لأشم عبق تاريخها، ولا أرغب بمُسمى النجف لأنه يرتبط عندي بالمقبرة، فالإمام علي (ع) كان كوفياً..

أستاذي مدني صالح يقول من يأوي مُحبيَ الفلسفة فهو فيلسوف، والأعسم آوى أهلها وأحسن الإيواء.

كتب الأعسم وألف وحقق فأجاد وأتقن، فقدم لنا دراسة من أروع ما يكون عن (ابن الريوندي المُلحد) بتلميح ذكي على أنه من دعاة التفكير العقلاني (التنويري)، فهو يُحسن التورية ويُتقن الدفاع عن رؤيته بالتخفي وراء النصوص.

إنها مهارة الحصيف الذي يتقي شر جهالة.

عبد الأمير الأعسم أستاذ من طراز المُستشرقين الذين يلحقون النص ليوثقوه في كل مكتبات الأرض. تعلم من (كامل مصطفى الشيبي) الذي أعطاه التزكية للقبول في الدكتوراه ببريطانيا، وكان الأعسم يذكر هذا بتباه.

الأعسم مُحقق ومُفهرس كبير للنصوص على طريقة الشيبي والمستشرقين، فكان كتابه الأهم "المصطلح الفلسفي عند العرب" موسوعة للتعريف بالفلسفة ومعنى الحدود في كتابات الفلاسفة ورسائلهم.

يُجيد فن التفلسف بذات المقدار الذي يُجيد به فن الإدارة، فهو (العميد) لكلية الآداب بجامعة الكوفة، وهو ررئيس قسم الدراسات الفلسفية ببيت الحكمة، فكان في زمنه هو القسم الأنشط بالمقارنة مع باقي الأقسام الأخرى في البيت...إنه كما أحسب من سُلالة (جبريل بن بختشيوع) و (يوحنا بن ماسويه) و (حُنين بن اسحاق)، أعتقد أنه كان حينما يكتب يشم رائحة الورق الأصفر الذي تناثرت ذراته في عوالم الفضاء المعرفي خارج هيمنة المكان والزمان.

سأتحدث لكم عن قامته بعد أن تحدثت عن قيمته، وهي لا تحدَها سطور، ولكنه يمشي كما الطاووس يمشي مُغتراً بنفسه لا لنرجسية فيه، وإن كانت (النرجسية) تليق به، ولكنه كان يمشي مزهواً بنفسه لأنه يعرف مقدار ما بذل من جهد معرفي في الكتابة والتحقيق تجعله يشعر بالثقة بأنه جدير بملئ المكان الذي هو فيه..

حينما كان عميداً لكلية الآداب بجامعة الكوفة، كانت تستقدمه سيارة (لاندكروز) من نوع (تيوتا) وهي الأفضل، ومرة كُنت أقف خلف مكتب العميد فإذا بهذه السيارة تقف، لينزل منها أحدهم ليفتح بابه الخلفي، فإذا بشخص مهيب ينزل منها قصير القامة مُمتلئ بدنياً، خط الشيب شعر رأسه والشارب، ولكن الروح لم ترض إلَا بحياة مليئة بالأمل، حينما نزل هذا المليء ثقة بنفسه من باب السيارة الخلفي وترجل عن صهوة (اللاندكروز) شاهدَت شباباً يتراكضون، ورمقت أحدهم يحمل حقيبة دبلوماسية من نوع (سمسونايت)، فعرفت أنها حقيبة هذا الفارس، وبلمح البصر بين فتح باب السيارة وحمل أحدهم للحقيبة الدبلوماسية، شعرت أنني أعيش لحظات رؤية لمشهد في فيل سينمائي يُتقن صانعوه اخراج المشهد..

نزل الأعسم من السيارة وبعض من الشباب يتراكض خلفه وقُداَمه، وبلحظة اندس من الباب الخلفي لدخوله للكلية وخروجه منها..

درَسني في الدكتوراه بجامعة بغداد، فكانت حقيبته (السمسونايت) من مُستلزمات استكمال حضوره الشخصي والمعرفي، فما أن يدخل القاعة (الصف) يضع الحقيبة على (الميز) وبعد إطلالته الهية علينا وجلوسه على الكرسي خلف المنصة يفتح حقيبته، ليُخرج منها سكائره، وعلى ما أتذكر أنه يُحب سكائر (الكريفن)، ويُبدَل نظَارته بنظَارة أخرى، يلبسها لترى عينيه يرمقان الطلبة خارج النظَارة، عينان تلمح بحركات حدقيتهما ذكاء رجل مُتمرس في الحياة والفكر، فهو بنظرته (من اينزل مناظره على أسفل خشمه)، توقع سؤالاً منه يخترق سكونيتك.

لا أظن أنه فارق اللباس الرسمي (القاط) يوماً مذ عرفته، فاللباس الرسمي يعشقه ويحتفي شاكراً بأن مثل الأعسم عاشق له.

كان له صديق وزميل أستاذ فلسفة من تكريت، أهدى له الأعسم مؤلفاً من مؤلفاته، ولكن ما أن تسنم الأعسم عمادة كُلية الآداب بجامعة الكوفة، حتى وجدنا هذا التكريتي يذمه بمناسبة أو من دونها، وكثيراً ما كان يقول أن قسم الفلسفة بكلية الآداب/ جامعة الكوفة (حسينية)، وكأن ما فعله الأعسم سُبة، ولكن الأعسم باق في قلوب طُلَابه والتكريتي أحمق لا ذكر له، بل ولا مقدرة لمن أحسن لهم مدحه من كثر أخطائه وخطاياه.

كان الأعسم مُقرباً من (النظام) ولكنك إن بحثت فلن تجد له مقالاً صريحاً يمدحه فيه، وغيره كان يكتب مقالات وينشرها ولا يستحي في ما سُميَ بـ (الجدار الحُرَ) يتغنى بفلسفة (القائد الضرورة) ويكتب عن (فلسفة الميلاد) تبرعاً!!.

ومرة قلت لأستاذنا الكبير (مدني صالح) هذا الشخص يكتب كثيراً عن مآثر "القائد الضرورة" فأجابني بالقول: "نستظل بظلَه" فلم أعرف حينهما قصد أستانا، ولكن بعد تفحص عرفت أن المتملقين المُتبرعين للكاتبة عن مآثر الحاكم المُستبد إنما يخدمون الآخرين الرافضين للكتابة عن مآثره!!..إنها حكمة حكيم..لأنهم لو لم يُجدوا لأرغمنا للكتابة عنهم، فشكراً لكل المُتملقين الذين حصنونا ساعة الشدَة!!.

أحسن الأعسم الاستفادة من النظام وتمكن من توظيف كثير من امكاناته لخدمة وتنشيط الدرس الفلسفي في العراق والعالم العربي، فهو خير من يستجيب لدعوته كبار المفكرين من العرب والمُسلمين، فهو من استقدم (ناصيف نصَار)، و (طه عبدالرحمن)، و (مُطاع صفدي)، و (محمد المصباحي) وكبار أهل الفلسفة في مشرق العرب ومغربه.

هو من أسس الجمعية الفلسفية العربية، وهو من أسس الاتحاد الفلسفي العربي، وترأس دوراتهما..

أستاذ يُجيد التفلسف والتخاطب مع المُختلفين وله القدرة على جمعهم في مؤتمر، فلم يكن (مُطاع صفدي) يتحمل آراء (طه عبدالرحمن) لا سيما بعد نقد الأخير لترجمة كتاب (جيل دولوز وفيلكس كيتاري) "ما هي الفلسة"، فشَرح عبدالرحمن الترجمة ونقدها في كتابه (الفلسفة والترجمة).

ترأس الأعسم مُناقشة أطروحتي للدكتوراه، وكان مُستاءاً بشدة وعبَر عن استيائه لأنني لم أستخدم بعض من كتاباته، فطلب مني التعديل وتضمين بعض مه هوامش ما كتبه في أطروحتي، وبعد تردد، وبما أنني لا قُدرة لي على الرفض تقبلت رؤيته، فراجعت أطروحتي ووثقت ما له علاقة بما كتب ونشر الأعسم، فرضى عني تمام الرضى ووقع لي استمارات المقبولية، وبعد زمن تواصلنا فكان نعم الأستاذ، ولم يكن يرتضي بمخاطبيتي بغير (علَاوي أنت باشا)، ولربما تستغربون لماذا هو يُخاطبني بهذا التعبير بصيغة (التحبب)؟ سأخبركم أنني لم أحمل له ضغينة يوما ما، وغيري تبناهم وعمل على التعريف بهم في الوسط الفلسفي العربي، ولكنهم بعد حين تنكروا له.

الأعسم تليق به صفة (الباشا)، باشا التفلسف بلا تكلف ولا تعقيد، باشا التحقيق في الفلسفة بلا ادعاء، وباشا اختراق التجهيل بتمكن وتسديد، وسعي لنشر التنوير من دون استخدام لآيات الويل والثبور و الوعد والوعيد..

(باشا آني أحبك والله وأكلك ما نمت ليلي وأحس روحك تخاطبني وتكلي علَاوي لا تنساني، وآني وروح مرهج ما ناسيك باشا)...أخاطبك بأسلوب التعظيم (باشا) لأنك (باشا) لا تشغلك صغائر الأمور في المعرفة، فشكراً لك لأن مأواك يلوذ به أهل الفلسفة، لأنك من يليق بك قول الكبير مدني صالح (الفيلسوف من يأوي الفلاسفة) وأنت كنت لنا ملاذاً نحتمي به نحن أهل الفلسفة. 

963 عبد الامير الاعسم1

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم