أقلام حرة

ريم سليمان الخش في سيمفونية الإغتراب

احمد الشيخاويإن المتتبّع لمسيرة ريم الإبداعية، لا يسعه سوى تسجيل الفارق، والانجذاب إلى عوالم الشعرية المنكتبة لروح تحاول قهر واقع اغترابها، مثلما توقّع صيحات للأنثوي، في ساحة النضال التعبيري، هي بألف صوت ذكوري، واشد منه قوة وحضورا بكثير.

عبر الإفصاح العاري عن ذات مهجرية تكابد محنة التشويش على هويتها، وتشاكس نوبات إرباك حالاتها الوجودية، على نحو يخترق آفاق القضية والرهانات الثورية التي قد تترع سياقات القول الشعري المنشد في مجمله إلى أصول العروضية ومقامراتها، ضخّا إستطيقيا، تفيض له كؤوس الممارسة المحتفية ببعدين جوهريين لا ثالث لهما: رومانسي تتأنق معه الذات في ترتيب مشاهد وجوديتها، وآخر ثوري يفكك المنظومة المفاهيمية اللصيقة بتقليدانية الانتماء وأحاسيسه المغلوطة والمغشوشة.

بذلك تكون الشاعرة السورية ريم سليمان الخش، تؤكد صيانتها لقناعاتها وثوابتها ومبادئها، لكن ضمن حدود تتناسل فيها التيمات والدوال وتزدهر، تبعا لصياغة وجودية موسوعية تراعي النيوكلاسيكية وتنتصر لصيرورة خطابها، بما يتيح تحديثات وقفزات نوعية تجبّ ما قبلها، كي تعد بالأجمل والأشهى والأنضر في دورة للمعنى السرمدي الذي قد تغازل بأسراره القصيدة المتمردة في إخلاصها لروح الجدة والمغايرة، وعقّها للساكن والخامل، وإن التزمت بالكتابة العروضية وتباهت بسبر أغوارها، في كثير من الأحيان.

وأنا أقلّب جديد شاعرتنا، هالتني غزارة وتصاعدية خطها الإبداعي، علما أنه فيض منشّط للمخيال الثوري، في ضرب من الحرص على بلورة الجيد والنوعي وغير المسبوق، فارتأيت أن أسوق النماذج التالية للتدليل على بعض ما قصدت إليه:

[يا ربّة القمح جوعٌ في الطواحين

لم ترحم النار أفواه المساكين

سنابل الحزن لون الليل بيدرها

محرّق القلب يشكو لي ..فيُبكيني

لم يترك الموت للأصحاب نافلة!

الشفعُ فالوتر جوعٌ قبلُ تأبينِ!!

ضاع العزيز وخلّى العقدَ منفرطا

دمعٌ يفيضُ وشكوى من ملاعينِ].

.................

[مصلّبةٌ جذوعك في بلادٍ

أردتَ لها الخلاصَ من البُغاةِ

ومنهمرٌ سحابك في عيوني

وفي بردى وفي جرح الفراتِ

ستبقى في عيون الشمس نورا

لتخبرنا بأنّ الوعد آتِ].

...................

[تُعاقرُ أسراب الطيور خمائلي

بأفنانها شهد الثمار مشبّعُ

أنا المنّة العظمى لأوروك رحمة

نماءٌ وقمحٌ بالمحبّة مشْبَعُ

هياكل عشاقي حدائقُ لذّة

وأنهارها طفلٌ وثديٌ ومرضعُ

حليبٌ بها يجري كنبع مقدسٍ

لتروى عروق الأرض بالحب تشبع

طوافٌ وأركاني غرامٌ ومتعةٌ

بترتيل لذّات الحياة ملعلعُ].

....................

[ لم يتركوا الطفلَ للأعياد في وطن

كلّ الأماكن طغيانٌ بطغيانِ

كلّ تراشقَ بالبارود يقتلني

رعبٌ أصمَّ كما (الفتيشُ) آذاني

كلّ تناهبَ ألعابي وذاكرتي

أرجوحة العيد قد طارت بخلّاني

كلّ يُريدك حكرا في طوائفه

قلبي الحزين له يا عيدُ أكفاني ].

.................

[ قرّبوا موعد الخلاص وإلا

حرق الظلم كوننا لا يُبالي

قربوا موعد الخلاص وإلاّ

ضرب العار وجهكم بالنعالِ

قربوا موعد الخلاص وإلاّ

فالبسوا ذلّكم كداء عضالِ

قربوا موعد الخلاص وإلاّ

سو ف أرثي لفقدكم في الرجالِ].

...................

[ نبض الشعوب براكينٌ مدمرة

فيها تُحرّقُ إنْ خانت أصابيعُ

لن يوقف الضوءَ آثامٌ بهم علقت

لمنبع النور آفاقٌ وتوسيعُ

لا تبكِ يا قدسُ لم تُطفأْ منارتنا

كلا ..وليس لنا عارٌ وتطبيعُ ].

بالتالي، نحن إزاء صوت مناهض لإيديولوجية الاستبداد والاستعباد، تلكم رواية القطيعة مع عقلية القطيع، ورفض سياسة الكيل بمكيالين في عالم السياسة، بحيث يعتّم ذلك على مسرح متوالية المتلازمات بين الراعي وشعبه، ويخلط الأوراق أو الأدوار ما بين الضحايا والجلادين.

هكذا، نجد طواحين وطواسين ريم، بلا جعجعة، ولو أنها تفرز لنا في دومين الشعرية المنرسمة لانخطافات الخطاب النيوكلاسيكي الرصين، متاهات من ثقافة مبارزة النرجسية المقنّعة، حدّا يجعل مثل هذا الغضب الطاعن بصوت الأنثوي، يحقق إلى حدا ما المعادلة الوجودية، أقله لذات، تكابد اغترابها وتتنفّس القصائد عن طريق تجويد إبداع الحس الهوياتي، بدل الاستسلام الكلي والتسليم بالبكائيات والانهزامية الميؤوس منها، والترنّم بمعطيات الطللية المكشوفة بنصوص الفجاجة المرتكنة إلى برودة الحنين في المعانقات الذاكراتية للأوطان.

ريم شاعرة تعانق وطنها المطعون بتوحش، يم لها ذلك في دائرة مخيال تتآكله سيمفونية الاغتراب، ما يؤهلها للارتقاء إبداعيا فوق كثيرات ممن تجايلنها أردن المزاوجة أو خلق توليفة مخملية مابين نوطتين متباعدتين دلاليا متجاورتين إبداعيا، ، وعلى مستوى كاف من الاجتراحات الميتالغوية، الرومانسي الذي هو صلب توازنات الذاتية والغيرية والكونية، لدى النوعين وبلا مفاضلات، ثم الثوري كلعنة تميط الأقنعة عن خلل الإيديولوجيات وتكشف زيفها ومواطن كمونها السرطاني الوبائي.

في كل كتابة جديدة للشاعرة ريم سليمان الخش، تتكشّف ذات أعمق لحمة بالتجربة الشعرية المدغدغة بفلسفة تجميل راهن المهجر، كما تخصيب مخيال الأنثوي بحضور وتجليات الوطن المطعون بالتكالبات الإيديولوجية.

تلكم ريم المتعثّرة بأعياد الكتابة العروضية في تجاوزها الإبداعي المتشبّع بإيقاعات ثورة الأنثوي، أفقا يجبّ آخر، واندلاقا كينونيا يتضوّع بسيرة شآمية عصية على عوامل الإبادة وسائر إيديولوجيات الخراب.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

 

في المثقف اليوم