أقلام حرة

مداد الانفعال وسوء المقال!!

صادق السامرائينقرأ الكثير من الكتابات المكتوبة بمداد الإنفعال الشديد، الذي أنتجته الأحداث والتجارب والمعاناة الشخصية الصعبة، فصنعت العقل الفردي وربما الجمعي ليكون عبدا لها، ومُسَخرا لتأكيد مواقفها وردود أفعالها المستعرة دوما.

فلا يمكنها قبول الرفض أو المحاجة أو تحكيم العقل والتروي، والنظر إلى الأمور بمنظار الواقع والمصلحة العامة، وتحقيق الإرادة الوطنية ذات المردودات الإيجابية على المواطنين.

فمن العسير عندنا، أن ينتقل الشخص المولود من رحم المأساة الفردية والجماعية، إلى التفكير المجرد من قيود الإنفعال وسطوة المشاعر الملتهبة، التي تعصف في أركان عقله وفضاء خياله، لأنه قد أصبح رهينة في كهوفها ومتاهاتها الظلماء.

ولهذا فأن الكتابات الناجمة عن هذه الحالة، ما هي إلا نشاطات نفسية باثولوجية لإرضاء الحاجات الدفينة في أعماق اللاوعي، المتخم بالعديد من الجراح والأقياح والعقد التي صنعتها تلك المعاناة، وخلفتها معركة المجابهة المريرة مع مفردات الواقع القائم في حينه، لتحقيق البقاء والتواصل المفروض على الفرد أو الجماعة.

ولازلنا نقرأ كتابات إرضاء الرغبات النفسية المكبوتة، وبناء الرؤى والتصورات على أركانها وأسسها التي أقيمت فوق تراب الكيان.

ومن يتأملها، يظهر له عدم واقعيتها وتطرفها  ومذهبيتها وطائفيتها وتجردها من أصولها وإنتمائها  إلى غيرها وضدها، وإمعانها بتصديق النوازع النفسية والحاجات الغير مَرْضية،

والتي تدفع بأصحابها إلى رؤية الواقع المعاصر من خلال ذلك المنظار المشوِّه، والمخرّب للعديد من التوجهات التي لا تخدم أي طرف وأي مخلوق، سوى أنها تقيم دعائم الشر والتفرقة وتدعو إلى تحقيق ذات المعاناة في الآخر، ودفع المجتمع إلى دائرة الإضطرابات المفرغة، التي يكون فيها المظلوم ظالما وبالعكس، حتى يتم إقصاء المجتمع من أرضه، وإحلال آخر مكانه لتمضي عجلة الحياة ولا يرتقي الوطن إلى فحوى إرادته.

بينما المجتمعات البشرية تمر بأزمات وعقود صعبة وشاقة، وتعاني شتى ظروف الظلم والإمتهان والقهر،  لكنها تفجر طاقات المقارعة والمرونة والمطاولة وتتحزم بالصبر والثقة والإيمان، وتزرع في دروبها بساتين الألفة والمحبة والأخوة، وتسقيها بقطر النسيان والغفران وتنظر إلى الأجيال اللاحقة لكي تسلمها راية طاهرة نقية، لتحملها بأمانة وصدق وأمل إلى الذي بعدها وهكذا.

وبنظرة سريعة إلى بعض الشعوب  التي قاست ما قاسته في النصف الأول من القرن العشرين، نرى كيف أنها إستطاعت أن تتجاوز حالتها ومأساتها وتبني مستقبلها في غضون عقود قليلة، وترتقي في سلم الإقتدار الأرضي وتتسيد على مساحة كبيرة منه، وذلك لأنها قد إقتربت من الحالة المأساوية بإيجابية خلاقة وإقدام واعي وحكمة وحلم وتدبير فائق.

أما في مجتمعاتنا فأن أهل المأساة لا يريدون تجاوزها، وإنما يجدون ويجتهدون في إعادة تصنيعها وإنتاجها من جديد بأنانية شرسة، وجر الأجيال كافة إلى السقوط في دائرتها المفرغة، ذات النتائج القاسية على الجميع.

ولا تجد أحدا قد قاسى وإستطاع أن يرتقي بفكره ونفسه وعقله وروحه إلى حالة أخرى متقدمة عليها، ويستثمر تجربته من أجل أن يمنع تكرارها ويوظفها لخدمة المجتمع الذي هو فيه، بل والمجتمع الإنساني، وإنما يريد أن ينتقم لنفسه من مجتمعه.

وهذا ما يفرق بين المتأخر والمتقدم، فالإنسان في المجتمع المتقدم، عندما يمر بتجربة قاسية ويعاني الأمرين، تراه يسعى إلى إستثمارها ووعيها ودراستها بعمق من أجل أن يحمي الآخرين من السقوط فيها.

ولهذا تجده يجتهد في إقامة المنظمات والجمعيات التي تهدف إلى تجنيب أبناء المجتمع ما عاناه، أو عانته تلك المجموعة من ضير التجربة.

أي أن الفرد في المجتمع المتقدم، يستلهم ويهضم تجربته بإيجابية وعقلانية، ونحن في المجتمع المتأخر نتعامل معها بسلبية وأنانية وإنتقامية ومواقف تدميرية للذات والآخر.

ولهذا نرى بيننا الذي يمر بتجربة يكتب بمرارة وكراهية وإنتقام من ذاته وموضوعه، فلا يحقق منفعة إجتماعية ولا يقي الآخرين من دخول ذات التجربة، وإنما يدفعهم إلى ما هو أقسى منها وأمر، لكي يرضي حاجاته الغريزية المتفاقمة التي تريد أن تنتقم من العالم بأسره لنفسها.

فلماذا لا يكتب أصحاب التجارب المريرة في بلادنا بمداد العقل الواعي للتجربة، وليس بمداد العقل المأسور بها؟

إن في ذلك مسؤولية أخلاقية وتربوية ووطنية وإنسانية، تحتم ضرورة الإرتقاء إليها، فأعظم الإبداعات الأدبية كانت تنبع من التجارب القاسية التي يمر بها الإنسان والمجتمع، ونحن برغم ثراء تجاربنا وقسوتها، لم نقدم إبداعا خلاقا  يرتقي إليها ويوظفها بإيجابية، لأننا لا نستطيع أن نعي تجاربنا، بل نسقط ضحايا لها وأسرى للمشاعر والإنفعالات الناجمة عنها، وفي هذا تكمن أحد مصائبنا الحضارية القاسية.

فهل لنا أن نتعافى ونستفيق؟!!

 

د-صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم