أقلام حرة

التربية والشخصية!!

صادق السامرائيهل أن المشكلة التي تمنعنا من التقدم والمعاصرة تربوية أم لها صلة بالشخصية؟

الشخصية البشرية معروفة بأنواعها، ولها خواصها ومميزاتها التي تمنحها طابعها الذي تُعرّف به.

ولا يمكن الخروج عن التصنيف العلمي للشخصية والإتيان بمسميات تخص هذه المجموعة من الناس دون غيرها، أو هذا الشعب دون غيره، لأن ذلك لا يستند إلى معطيات العلم والبحوث المعاصرة، التي تحاول أن تتلمس طريقها إلى الحقائق العلمية والثوابت المعرفية الواضحة.

والقائلين بشخصيات مرتبطة بفئة معينة، إنما يخلطون ما بين الشخصية والسلوك الذي تمليه عوامل وظروف متعددة ومتفاعلة بتواصل أو إنقطاع.

فمن الصعب أن نقول أن هناك شخصية بتسميات نخترعها كما يحلو لنا وتسوغ تصوراتنا التي تخدعنا بالمعرفة، ولكن يمكننا القول بوجود شخصية وسواسية وغير إجتماعية ومنطوية ونرجسية وغيرها من الأنواع المعروفة في التصنيفات العلمية.

وهذه الشخصيات لها وسائلها المتميزة التي تتفاعل بها مع المحيط الخارجي وتغيراته في رحلة الصراع من أجل البقاء المريرة أحيانا، خصوصا عندما تتكالب الظروف وتتواصل الحروب وتشتد الخطوب وتتآزر الملمات.

وقد يتحقق إنحراف سلوكي معين وربما يؤدي إلى سيادته ووضوحه، لأنه أصبح الوسيلة اللازمة للجماعة للحفاظ على بقائها وخروجها من مأزق الهلاك والإنقراض،  وقد يتأكد الإنحراف السلوكي ويتواصل متوارثا عبر الأجيال إذا تكررت الظروف وعززته.

والشخصية في تفاعلها مع المحيط الخارجي تتعلم وتهذب سلوكها وفقا لمعطياته وتبدلاته التي قد تستهدفها، فتحاول أن تجد لها مخرجا من إشتداد إنقضاض المحيط عليها، وبهذا فأنها تؤسس معالم وجودها ومستقبلها وتمضي في طريقها برغم ضراوة ظروفها.

فالشخصية لديها قدرة كبيرة على المطاوعة والمرونة والمطاولة والمقاومة والصلابة، وبين هذه الصفات تتعدد نواحي السلوك وتختلط وتتعقد.

وبهذا التفاعل الذي قد يكون إيجابيا أو سلبيا تبدو المعالم متشابكة، فيتوهم البعض بأن فئة ما من الناس تتميز بهذه الشخصية، والتي يعنون بها الصفة السائدة في السلوك وليس الشخصية بحد ذاتها وعناصر تكوينها الأساسية.

فالسلوك إستجابات يتعلمها الفرد من خلال تواصله مع المحيط الذي هو فيه، وكأن المحيط مدرسة تربي الفرد وتصنع منه الكيان الذي يكون عليه ويتعامل به مع الظروف من حوله.

وفي هذا تبرز التربية التي تصنع الإنسان وتحدد معالم وجوده وتفاعله مع الحياة بصورة عامة. فهناك ظروف ومتغيرات تربي البشر وتتغلب في تأثيراتها على قواعد وأصول التربية المتعارف عليها في عالمنا المعاصر، لأن البشر عندما يكون في موضع الخطر لا يعنيه شيئا سوى كيفية الحفاظ على ذاته وتواصل نوعه، ووفقا لظروفه يبتكر وسائله اللازمة لتحقيق هذا الهدف البقائي.

وعندما نضع شعبا من الشعوب في حرب متواصلة لعقود بكل قساوتها ووسائل فتكها، وفنون وحشيتها ودمارها وحصاراتها المرعبة، مع الأخذ بنظر الإعتبار توالي الصراعات على أرضه وعلى مدى القرون، يكون من الواضح أن السلوك الذي يتحقق بين أبنائه سيتوافق والظروف المريرة التي يكابدها كل يوم، ويكون من الظلم أن نسمي فئاته بما يحلو لنا من المسميات وعناوين التوصيف الجائرة.

وقد نأتي برؤى وتحليلات لتفسير ظاهرة سلوكية ما، لكن ذلك لا يعني الصواب بقدر كونها وجهة نظر وفقا لثقافة صاحبها.

وعندما نعود إلى عنوان المقال ونحاول أن نجيب على تساؤله، يبدو أن ما يجري في عالمنا المتأخر، هو إنهيارات تربوية ساهمت في تعزيزها الظروف القاسية المتنوعة التي يعيشها المجتمع، والتي أخذت تملي عليه سلوكيات لا تتفق وقدرات المعاصرة والتفاعل الإيجابي الخلاق مع الحياة، لكنها تساهم بصورة أو بأخرى في المحافظة على بقائه وبأساليب متأخرة أيضا.

فهناك تدني في مستويات التربية والتعليم ومناهجها، وإعداد الأجيال وتحضيرها لحمل المسؤولية، والجد والإجتهاد في تحقيق أهدافها المتعاقبة على أرض الوطن.

ويبدو الخلل التربوي واضحا في أبسط مقارنة ما بين العالم المتقدم والمتأخر، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحقق التقدم من غير ثورة تربوية ذات قدرة عالية على المواكبة والتواصل مع معطيات العلوم التربوية الحديثة.

وعندما تشتد الظروف ويعز على الناس توفير مقومات العيش والخروج من  نداء حاجات البقاء، يصبح الحديث عن التربية ومبادئها وأساليبها شيئا بعيدا عن التصور والمنال، مما يؤدي إلى مزيد من التردي والسلبية، التي تتفاقم لتصنع حالة معقدة ومشوشة من العجز والإنكسار والتدهور الضار في جميع مناحي الحياة.

وهذا بدوره يدفع إلى محاولة المعرفة والفهم وقتل الجهل والإحباط والإضطراب، فيساهم في اللجوء إلى التفسيرات السهلة والبسيطة التي تريح النفس وتخلصها من إتقاد الصراع في أغوارها وطبقاتها.

وهكذا ترانا نميل إلى التنظير والتبرير والتمسك الفائق بما نرى من غير أدلة موضوعية وإستنتاجات بحثية ذات قيمة ورصانة علمية، ونهمل المعطيات السلوكية التي تؤسسها الظروف القاسية المتواترة المقيمة على صدور الأجيال.

فهل لنا أن ننظر بعين الإنصاف ونبصر بعقولنا الخالصة؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم