أقلام حرة

السائد قائد!!

صادق السامرائيالسلوك منظومة تفاعلية تؤسس لها افكار قائمة في الأدمغة ولها دوائرها التواصلية العصيبية التي ينجم عنها ما يتوافق وما فيها من الرءى والتصورات.

فالذي يتلجلج في الأدمغة يكون حتما في الواقع الذي تتحرك فيه، وتعبر عن محتواها المتطلع للتكون من حولها، فالواقع مرآة ما فينا، وهو رمزنا الفعلي وتواصلنا العملي ما بين الذات والموضوع.

وطبيعة الأفكار الفاعلة في الأدمغة تتواءم مع طبيعة الصورة القائمة في محيطها، ولا يمكن الفصل بين ما هو قائم وما هو نائم، كما لايمكننا الجزم بأن ما هم قائم لا يبشر بقادم.

ووفقا لهذه المفاهيم فأن السائد في وعينا الجمعي يرسم خارطة أيامنا ويصنع كينونتنا التي نتماهى فيها وتدلل علينا فتؤكدنا أو تلغينا.

وسأتناول بعض الموصوعات التي لها الدور الفاعل في ترتيب أوضاعنا السلوكية المهيمنة على وجودنا.

أولا: الغباء السائد والذكاء البائد!!

العالم المعاصر ميدان لصراع وتفاعل الأذكياء.

وكل أمة تؤهل أذكى أبنائها ليكونوا في مقدمة الركب.

وتحملهم مسؤولية الحاضر والمستقبل، وإرادة المصير.

والمجتمعات القوية ذات قدرات وطاقات ذكية.

والمجتمعات الضعيفة ضحية الكراسي الغبية.

وكلما إزدادت المسافة ما بين درجات الذكاء والغباء، إزدادت الفواصل ما بين الحالتين.

فالذكاء قوة.

والغباء ضعف.

وجمهرة من العقول الذكية المتفاعلة، تؤسس لحالة ذكية فائقة ومتميزة.

ومجموعة من العقول الغبية، تؤدي إلى صياغات أشد غباءً من واحدها.

وفي هذا الخضم القائم في الحياة، تتحدد معالم وإتجاهات الصيرورات الوطنية والمصيرية لكل مجتمع.

ففي المجتمعات المتقدمة يكون القادة، أكثر ذكاءً من المجموع العام، والمجتمع يمتلك آليات لتأهيل الأذكياء للوصول إلى مقدمة الركب وقيادة المسير، فيكون التفاعل والتنافس ما بين جمهرة الأذكياء، والمُعبّرين عن ذكائهم بما أوجدوه من مؤسسات ومشاريع، وصناعات ومبتكرات وإختراعات ، ومنطلقات لرؤية الحاضر والمستقبل.

وفي المجتمعات المتأخرة، يكون القادة أصحاب ذكاء ضمن المعدل العام أو أقل منه، ولا تجد بينهم مَن هو صاحب ذكاء فائق، لأن هذه المجتمعات أوجدت آليات لإبادة الأذكياء، وطردهم وتهجيرهم والتخلص منهم، ذلك أن معاشر الأغبياء هم الذين يتمتعون بالقوة والقرار.

والذكاء يقاس اليوم من الكلام، والخطب والقدرة على إستخدام اللغة، ومن القرارات وإمكانية إدارة الحوار والتفاعل مع الآخر، وفي قابلية حلّ المشاكل والثقافة العامة.

ولو قيّمنا أصحاب الكراسي في مجتمعاتنا، لوجدناهم يعجزون عن حل المشاكل، بل بوجودهم  تتفاقم، والأوضاع تتأزم، وتراهم يتمتعون بإدامتها والتوحل فيها.

ولو قارنا بين أي مسؤول في المجتمعات المتقدمة، وأي مسؤول في مجتمعاتنا، لإتضح الفرق في درجة الذكاء.

فتأملوا ما يحصل في مجالس المجتمعات المتقدمة ومجالس مجتمعاتنا، وقارنوا قدرات الخطاب وإستعمال اللغة، والنباهة والبديهية وسرعة الإجابة الدقيقة، وقدرات النظر والتقدير، وستعرفون لماذا نحن لا نستطيع حل أي مشكلة، وهم مؤهلون لإيجاد الحلول لأية مشكلة؟

فهل من إرادة وآلية لدفع الأذكياء إلى مقدمة ركب الحياة، في مجتمعاتنا المبتلاة بغيرهم، لكي نعاصر ونكون؟!!

 

ثانيا: الإنفعالية السائدة والعقل المأزوم!!

الواقع العربي إنفعالي الطباع والسلوك ولا يمكن للعقل أن يجد دورا وتأثيرا فيه، والمصيبة الكبرى أن مؤججات الإنفعالية تتراكم وتتفاقم، ومعززات العقل تتناقص وتغيب، وتلك محنة جوهرية تساهم في تنمية الإنكسارات وإستلطاف الخيبات والقهريات، والتغني بالمظلوميات والحرمانيات وغيرها من السلبيات والإنكسارات.

ليس ما تقدم حكما مُسبقا أو رميا بسوء، وإنما واقع مرير تعيشه الأجيال وما وجدت لها منه مخرجا، فوصلت بها الأحوال إلى ما هي عليه اليوم من السعي إلى الهروب والهُجران، للتخلص من محنة الموت في الأوطان المعبأة بالعدوان.

والمشكلة أن المجتمعات تمر بسورات إنفعالية ينتفي فيها العقل وتتسيد أمَارات السوء، ولكن وقتها معلوم ولا يدوم، كما هو دائم ودائب في المجتمع العربي، فالمجتمعات الأوربية وغيرها مرّت بفترات زمنية ذات نزعات إنفعالية هوجاء، لكنها هدأت وعادت إلى صوابها وأبصرت طريقها، أما المجتمع العربي فأنه في دوامة مفرغة من الإنفعالات التي محقت العقل وأبعدته عن الواقع والحياة، وجعلت الأجيال تتوارد إلى أجيج ونيران وتتمتع بسلوك الإنحطاب، والغياب اللذيذ في كهوف الضلال والبهتان الخصيب.

هذه العلة المريرة أسهمت فيها قوى خارجية وفقا لمنطوق مصالحها ومشاريعها، وقوى إقليمية، والأهم من ذلك قوى داخلية عربية، قررت أن تكون كرات  تركلها أقدام القوى الأخرى وتضعها في المرمى الذي تريد، فتحقق بواسطتها أهدافها، وتمرر مشاريعها، بخسائر قليلة جدا.

فالعاطفة يؤججها العرب وخصوصا الإعلام الممول والأقلام التي تكتب بمداد مَن يدفع أكثر، ويرعاها الجهل وسياسات التخويف والترعيب العاصفة في المجتمع  الذي يعيش حالات طوارئ منذ عدة قرون، وما رفعت عنه هذه الحالات وإنما تواصلت وتعاظمت، كما نشهده في العديد من الدول التي تقف على أطراف أصابعها وهي على شفا حفرة من النار أو فيها.

وفي خضم المكتوب الإنفعالي لا يمكن للمكتوب العقلي أن يجد له موضعا أو مَن ينتبه إليه ويدركه ويعمل بموجبه، فالطائفية والفئوية هي القانون والوطنية أصبحت هذيانا وتخريفات على سطور، فلا بد من الكتابة بحبر الإنفعال لكي ينتشر المقال ويساهم في صب الزيت على النيران، وإتساع مساحة الحريق والتدمير والتهجير والثبور والخسران الأثيم.

وما دامت الأقلام تدوسها أقدام الكراسي وعجلات المآسي، فأن المجتمع يتدحرج على سفوح منحدرات حادة، ستأخذه إلى إمبراطوريات أبي لهب وكل واحد من حوله حمّال حطب!!

عاشت العواطف والطوائف ورحم الله الذين لا يبصرون كيف بأندلسٍ دقت أجراس عطب؟!!

ثالثا: الموت السائد والحياة المنهزمة!!

البيئة العربية الإجتماعية والنفسية والفكرية والثقافية يسودها الموت،  مما ينعكس على جميع النشاطات والتفاعلات الحاصلة في الواقع العربي.

وهذه الثقافة الموتية تسربت إلى دياجير اللاوعي وتخللت في مسامات الرؤى والتصورات والمعتقدات ، حتى أنها حلّت في الطعام والشراب والهواء، فما عاد للحياة فجوة أو فرصة وقدرة على التواصل والتفاعل والتمدد والإتساع، وإنما هي في حالة إنحسارية يائسة بائسة باكية حزينة متوشحة بالنجيع.

فما تخطه الأقلام وتتفوه به الألسن وتطرحه العقول وتعبّر عنه التفاعلات والسلوكيات اليومية المتنوعة، تعزيز لمنحى الموت ومعاداة لمَواطِن الحياة ونوازع التطلعات لحاضر سعيد ومستقبل رغيد.

فالأنانية والمصالح الشخصية المقيتة تمكنت من الكراسي، حتى صار الشعب يولي عليه السراق والفاسدين والخانعين للآخرين، الذين ينفذون أجندات الويلات والتداعيات والإستثمار بالنكبات، وكلها تعمل بجد وإجتهاه وهي ترفع شعار " إذا لا تستحي فافعل ما شئت"، وقد مسحت آخر قطرة حياء من جبينها المعفر بالذل والهوان والمخازي الجسام.

وهذه العوامل المميتة التي تداخلت في صناعة الواقع المرير الذي تعيشه المجتمعات العربية وتتمحن فيه،  وكأنها في أوحال الويلات والتدهورات السيئة والخسائر الفظيعة الشنيعة المهيمنة على آفاق الوجود البشري، والمؤدية إلى تصاراعات إتلافية وإنحدارات إنقراضية قاسية ومدمرة للمدن والعمران.

فالتكريه بالحياة وتحبيب الموت من الثقافات المنتشرة في العديد من المجتمعات، مما تسبب في تشويش في الرؤى وخلل في التفكير البشري، ودفع لليأس والقنوط وعدم الإكتراث بما يجري وما ستؤول إليه الأحداث، وما ينزل على البشر من الويلات والتداعيات.

وكأن البشر قد جاء ليموت وحسب، وعليه أن يلغي مسيرة وجوده ما بين الولادة والموت، وأن الحياة نكتة أو ورطة، أو توحل أليم، وإنه وُجِدَ عبثا، ولا غاية معلومة أو واضحة من وجوده حيا وساعيا فوق التراب.

وفي هذا إفتراء على رسالة الإنسان ودوره الإيجابي الصالح،  لإرساء معالم الطريق الصاعد نحو أرقى سبل التعبير عن الإنسانية، التي تجسد معاني الخلق وتترجم أفكار السماء وتصنّع القيم والمعايير في مشاريع وبرامج سلوكية، ذات مردودات فاضلة ومطورة للتفاعلات الأسمى والأرقى.

فالإنسان مخلوق ليعمّر الأرض ويسعى في مناكبها طيبا عزيزا حرا كريما يعرف حدود خالقة ورسالته، وعليه أن ينقب في أعماقه ليستخرج منها جواهر التطلعات والتصورات، القادرة على المساهمة في رسم لوحة الوجود الأجمل.

فالموجودات طاقات متفاعلة وقدرات متطورة متوثبة للنهوض بمهام التحرر من الإنحباس في وعاء محكوم بالجذب والتنافر والدوران، وبهذا الهمّ والتوقد الوعيوي والإدراكي، يمكن للإنسان أن يشيّد عمارة الرسالة الخلقية الطاهرة النقية المتسعة، المستوعبة لجماهير الأجيال الوافدة الحالمة بالوصول إلى ذروة السعادة الوجودية، والتعبيرات الخلقية الصاعدة نحو آفاق المطلق الخفاقة بالقيم الكبرى الصالحة، والمتفقة مع إيقاعات الكون وألحانه ونغمات ما فيه من نبضات وتطلعات سرمدية.

وعليه فلا بد لنا أن نعمل على سيادة ما هو إيجابي وتفاؤلي وإقتداري، لكي تعبق الأجيال من ضوع الحياة، وتتعلم كيف تبني وتيتكر وتنطلق في مشيرة إنسانية سعيدة ذات معاني حضارية وعطاءات وارفة تتنعم بها وتتفاخر، وتتواصل بتطويرها ومواكبتها مع عصرها المتجدد المتوثب في آفاق الإبداع المطلق الفتان.

فهل لنا أن نتمسك بما يجيينا وننأى عن الذي يميتنا وينهينا؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم