أقلام حرة

المبدعون ينتحرون!!

صادق السامرائيالإنتحار فعل عدواني موجه ضد النفس أو الذات البشرية، وهو سلوك محير ومعقد وفيه الكثير من الدوافع المركبة والشديدة التشابك، والتي تتفاعل فيما بينها لتسوّغ للفرد الإجهاز على نفسه وقتلها.

ووسائل الإنتحار متنوعة وأكثرها شيوعا إطلاق النار على النفس أو شنقها أو أخذ جرعات كبيرة من الأدوية، وغيرها من الوسائل الأخرى التي يبدعها الشخص الذي يقرر قتل نفسه والإنقضاض القاسي على حياته.

وفي أغلب الأحيان يكون لمرض الكآبة وتعاطي الخمر دور كبير في دفع البشر إلى الإنتحار.

لأن الشخص عندما يكون مكتئبا لا يرى من الحياة إلا الوجه الأسود القاتم، ولا يمكنه أن يفسر الأحداث والمتغيرات من حوله إلا بسوداوية ويأس ويستحضر كل الذكريات الأليمة، التي تتراكم في دنياه لتصنع عالما خانقا وشديد الظلام، لدرجة أنه يتحول إلى جثة مدفونة في قبر الذات الأسود.

ويساهم الخمر في تفاقم الكآبة وتسويغ الأفكار الإنتحارية وتنفيذها، لفقدان القدرة على التقدير الصحيح في حالة السكر والثمالة.

ومع تداعيات اليأس وخيبات الأمل وتراكم المعطيات القاهرة والتعجيزية وتزايد الضربات الإحباطية والمأساوية، يتحول البشر إلى حالة داخلية مشلولة لكنها متحركة ظاهريا.

وتأخذ مفردات إتخاذ القرار بقتل النفس بالتكاثف والتعاظم حتى يجد الشخص المنهوك نفسيا وفكريا، والمفرغ روحيا والخمر يعبث في دماغه ويصادر حكمته، أن لا سبيل أمامه لحل كل هذه التفاعلات الأليمة المتفاقمة  إلا بقتل النفس.

أي أنه يمضي في تمحيص الخيارات لفترة ما من الزمن حتى يركن إلى قرار الموت، ويعتبره هو الحل الأمثل لكل ما يعانيه ويغرق فيه من غيوم الظلام والألم والحزن، الذي خيم على كل خلية في جسمه وأغلق نوافذ الأضواء، وحوله إلى وجود يائس في غرفة بلا أمل أو معنى.

وغالبا ما يميل الشخص الذي يهم بالإنتحار إلى العزلة، والإبتعاد التام عن منبهات الحياة، والخلو إلى إرادة الموت وإستلطافها والتفاعل معها على أنها هي الحياة.

ويحقق الإنتحار هربا سريعا من الآلام العاطفية والنفسية والروحية القاسية، التي لا يطيقها الجسم البشري ويقرر صاحبه أن ينجو من جحيم الآهات المتأججة في أعماقه، بالسقوط في عالم الموت المجهول الذي يتصوره كحالة أخرى أرحم من الحياة القاسية، التي يئن من أثقالها ومواجعها.

إن هذا الإنحدار إلى نقطة الفناء القاتمة يدفع نحو الخلاص من المحنة النفسية المروعة، بقرار أشد رعبا وهو قتل النفس والتخلص منها وتدمير وجودها.

وهناك العديد من الذين حاولوا الإنتحار وتم إنقاذهم، والذين عبروا عن أسفهم الشديد لقرارهم، وأن بعضهم قد إجتاحه الندم وهو في حالة التنفيذ كالقفز من الأعالي.

وقرار الإنتحار يكون خاطئا على الدوام لأنه لا يتفق وبديهيات الحياة، فلا يمكن أن يكون للمشكلة أيا كانت حلا واحدا فقط، لكن المنتحرين يجدون أنفسهم في زاوية ضيقة وخانقة تحرمهم من القدرة على النظر لخيارات أخرى، ويتنامى أمام أنظارهم قرار الإنتحار على أنه القرار الذي لا يوجد غيره في تلك اللحظة  الكئيبة السوداء، التي سقطوا فيها فيقدمون على إذكاء دخان المأساة.

وعندما تتوافد المشاعر والأفكار والتصورات اليائسة إلى شخص يمارس الإبداع، وينشغل في الخلق الفني ويرى الأحداث من حوله بروحه المتطلعة إلى الأمل الكبير، وإحساسه المرهف المشحون بالتفاعلات الإنسانية الحارة، يكون عنده هضم الأمواج السوداوية عسيرا والتفاعل معها قاسيا ومؤلما وغريبا وربما فجائعيا، لأن تمثل الأحداث المتفوقة على خيال المبدع يؤدي إلى مآسي وأوجاع بدنية وروحية مبرحة، وإندفاع بإتجاه الهرب من المواجهة والتفاعل مع الوضع القاسي والأليم لحد الموت بأساليب لا تخطر على بال الآخرين.

فعندما تتحول القيم إلى مأساة، والدين إلى مصيبة، والوطن إلى سجن للعذاب والموت والتمزق،

وعندما تمتلئ الشوارع بالأشلاء، ويغيب الأمن والأمان وتفقد الحياة أبسط معاييرها الأخلاقية وأبجديات صيرورتها المعاصرة.

هذه التداعيات المخيبة للآمال في زمن التوقد الحضاري والتطور الإنساني السريع، تدفع بالمبدعين إلى زاوية الحيرة، وتقذف بهم في لجج الصدمة وتطلق فيهم أحاسيس الغضب والحنق على الذات وتشعل في كيانهم مواقد تأنيب الضمير، فمنهم من يلجأ إلى مملكة إبداعه ويأخذ بتسطير ما يجيش في نفسه وخياله، وبعضهم يهرب من كل شيئ ويعاقر الخمر والكآبة ويغرق فيهما إلى حد الموت.

وقد لاحظنا عددا من المبدعين وهم في أعلى درجات اليأس والحزن والوجع الروحي والنفسي، والصراخ الوطني المدوي على السطور وفي قسمات الوجوه ونظرات العيون.

مبدعون يُقتلعون من جذورهم ومنابع وجودهم ومواضع تألقهم، كالأزهار التي نبذت في العراء تبحث عن ماء يقيها من الذبول والموت الحتمي.

مبدعون يتشردون في أصقاع الدنيا ويتعذبون في ديارهم، الخوف يطاردهم والفرق الإجرامية وغيرها  تلاحقهم، وتريد أن تقضي عليهم بإسم الظلام والأوهام.

مبدعون في حالة إختناق رهيب، تصادر جميع حقوقهم الإنسانية، وترتكب بحقهم الجرائم   بإسم المثل والقيم العظيمة السمحاء السامية العلياء، وبإسم الحرية والديمقراطية والأصولية العمياء.

مبدعون يقرؤون في الصحف ما لا يمت إلى الحياة بصلة، ويتعجبون من الدفق الظلامي الذي تسيد على السطور، وأخذ يغذي الزمن المعاصر بأدب الأجداث وخطابات القبور.

مبدعون يريدون الخروج من الحاضر إلى المستقبل ويطيرون بأجنحة تصوراتهم وخيالاتهم إلى حيث التجدد والتطور والخلق والتواصل مع الأجيال، وإذا بهم أسرى كهوف ماضوية وعقد ظلامية وتصورات أشد سوادا من الليل الداجي، وأكبر ثقلا من الأرض، وأعظم توحشا من كل الوحوش الأرضية.

مبدعون بلا قدرة على التفاعل والأخذ بزمام الحياة والمشاركة في رسم خارطة التألق الحضاري

فاكتأبوا، لأن إبداعهم تحول إلى هشيم وأعمارهم إلى رماد وكل ما فعلوه في سبيل المستقبل المشرق المعاصر، قد صار تحت سنابك طوابير الظلم والظلام والجر المأساوي إلى الوراء.

مبدعون يسقطون في سجن الصمت واللاجدوى، ويتراكم عليهم اليأس والإحباط وتأكلهم الخيبة ويجهز عليهم القنوط، فما عادت الرؤية واضحة ولا أصبح عندهم بصيص أمل، فقرروا الإنتحار والثورة بوجه الواقع المرير وفي عرفهم أن الموت إبداع، فراحوا يعانقونه ويحسبونه الإبداع الأصيل والأخير فاختاروه وجابهوه بطاقاتهم الخلاقة، وهم يصرخون نحن القادمون إليك ولن ندعك تقدم إلينا.

نحن الوافدون.

فيسكرون بمآسيهم وأحزانهم وينتحرون!!

تلك قصة مأساوية وإبداع  مرير توّج ما يدور في بعض المجتمعات، التي تحولت إلى عالم من الويلات ومواطن للجحيم الذي ما بعده جحيم.

المبدعون الذين يتحسسون ويتألمون ما عادوا بقادرين على النظر إلى الحالة الدامية  المتفاقمة المترعة بالأوجاع الفائقة والآلام الصارخة، وقد خارت أقلامهم وتهدمت آمالهم وتفسخت أحلامهم في هذا الانحباس الظلامي، الذي خيم على أركان الحياة وحولها إلى ميدان عزاء ومسيرات ندب ودموع وبكاء أبدي.

المبدعون أخذوا يتحسسون دبيب الموت يسري في أجسامهم مبتدءً بالقدمين، ومن ثم الساقين وحتى القلب الذي سيختلج ويهمد ويقضي بالموت الجسدي الأكيد.

أيها المبدعون عليكم أن لا تيأسوا بل أن تواجهوا بإبداعكم الغيوم السوداء، التي حتما سيبددها النور الإبداعي وضوء الحياة، التي لا يمكنها أن تأنس لخفافيش الدمار وعفاريت البلاء ، فالحياة مع الإبداع والمستقبل مع الإبداع.

وإرادة الإبداع أقوى القدرات اللازمة لصناعة الحياة الزاهية المترعة بالآمال، والملونة بالمحبة والأخوة والنقاء الإنساني الحر، الذي يحترم آراء الناس ومعتقداتهم وتوجهاتهم الفكرية والروحية.

الحياة تتسع للملايين ولا يمكنها أن تخضع للظلام مهما طال، وتوهم بالقوة وتعبد في محراب الكراسي والقصور.

وقاكم الله من رياح اليأس وسيول الخيبات وثبت خطاكم، وأعانكم على القهر والتشرد والعوز والآلام والتعب، وأنتم تحملون أوطانكم في قلوبكم وأرواحكم وعقولكم.

فاستعينوا بالأمل والرجاء ولا تستكينوا لليأس أبدا، فلا حياة مع اليأس.

لا تستسلموا للكآبة ولا تسمحوا لعجلات الإحباط الثقيلة أن تدوسكم وتسحق آمالكم وتطلعاتكم، ولا تجالسوا وحدتكم وعزلتكم وتعاقروا الخمور، ولا تعزفوا على أوتار وِطانكم وحنينكم.

فلا بد من الخروج من رحم النقطة وجوف اللحظة إلى الفضاءات الحضارية والتأريخية المطلقة.

وأنتم تعرفون أن الوطن لا يموت كالنهر الذي تتغير أمواجه لكن مياهه تبقى متدفقة متجددة تسقي الحياة بمداد العطاء الكبير.

وعذرا أيها المبدعون الطيبون الأنقياء أينما كنتم.

مع المحبة والتقدير والأمنيات الرائعة بالعطاء الخلاق الذي يصنع الحاضر والمستقبل.

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم