أقلام حرة

هل انتحر يسينين أم قتلوه؟

ضياء نافعانتحر الشاعر الروسي الكبير يسينين عام 1925، وكان عمره آنذاك (30) سنة ليس الا. هكذا علمنا، او، بتعبير أدق، هكذا قال لنا اساتذتنا الروس، عندما كنا طلبة في ربيع أعمارنا بالجامعات السوفيتية في ستينيات القرن العشرين. لازلت اتذكر كيف قرأت لنا مدرّستنا قصيدة (شاغانيه) الرائعة ليسينين، والتي يتغزّل فيها بفتاة فارسية اسمها شاغانيه التقاها في القوقاز، وشرحتها لنا (وقد حفظناها عن ظهر قلب تقريبا اثناء الدرس !)، وتحدثت بعدئذ عن انتحاره في غرفتة بفندق بمدينة لينينغراد، وكيف انه كتب بالدم (احتجاجا على عدم وجود حبر في الغرفة !!!) قصيدته الاخيرة على جدار تلك الغرفة، وهي قصيدة بعنوان – (وداعا يا صديقي وداعا)، ولازلت أتذكر كم تألمنا ونحن نستمع الى قصة انتحار هذا الشاعر ذو الوجه النوّار والرائع والمبتسم، الذي كتب تلك القصائد الرقيقة والجميلة والمليئة بروح الشباب واحلامهم الخياليّة الحلوة .

ومرّت الاعوام، وانهينا دراستنا وعدنا الى الوطن، وعندما كنّا نزور موسكو في العطل الصيفية، بدأنا نسمع من اصدقائنا الروس انفسهم ايضا قصة اخرى حول موته، وهي ان يسينين لم ينتحر، وانما تم تدبير مقتله عمدا من قبل أجهزة معينة في الدولة السوفيتية، وان قصة انتحاره غير حقيقية جملة وتفصيلا . بدأ هذا الحديث همسا اول الامر، في اواسط السبعينات من القرن الماضي، وسمعنا هذا (الهمس!) اولا من الاصدقاء الروس القريبين الينا روحيا، اي الذين كنا نمتلك معهم علاقات تسودها الثقة المتبادلة نتيجة سنوات طويلة متراكمة من الصداقة والاختلاط معا، وكنّا نقول لهم آنذاك، ان كل شئ جائز في هذا العالم العاصف، وان الحقائق يجب ان تظهر يوما مهما طال الزمن، ولكننا كنّا نقول ايضا، ان نصف قرن مضى على حادث انتحاره، وان تلك الفترة كافية من اجل ان تظهر الحقيقة، فلماذا السكوت لحد الان عنها؟ ولماذا لا يتحول هذا الهمس (ان كان حقيقة) الى كلام علني صريح، خصوصا وان شعر يسينين كان يزداد انتشارا وشعبية في روسيا، بل وفي العالم ايضا ؟ ولكن لم يكن باستطاعة هؤلاء الاصدقاء الروس آنذاك أن يجيبونا عن تلك الاسئلة طبعا، اذ كان الخوف من الكلام الصريح في مثل هذه الامور لازال سائدا في سبعينات القرن الماضي رغم كل التغييرات التي حدثت في الاتحاد السوفيتي، اذ كانت – مع كل ذلك - هناك (آذان عند الجدران!) تسمع وتصغي وتتابع وتدقق وتحاسب، وكنّا نحن نتصرف دائما بحذر شديد (ترسّب في اعماق روحنا منذ ايام الدراسة في الستينات بموسكو)، ولاننا – ايضا - كنّا ضيوفا عند هؤلاء الاصدقاء الروس، وكنّا ننطلق طبعا من مفهومنا العربي الخالد – يا غريب كن أديب .

جاء ت الثمانينات، وبدأت في الاتحاد السوفيتي ظواهر جديدة لم نكن نعرفها سابقا، مثل البيريسترويكا (اعادة البناء) والغلاسنوست (العلانية) وغيرها (والتي أدّت في النهاية الى ما ادّت اليه، وصولا الى انهيار الدولة السوفيتية كما هو معروف)، وتحوّل الهمس الذي كنّا نسمعه آنذاك حول انتحار يسنين الى كلام علني صريح ، وأذكر اني قرأت (اثناء احدى زياراتي لموسكو في العطلة الصيفية) مقالا مسهبا بقلم أحد رجالات الشرطة، من العاملين في التحقيقات، اشار فيه الى الثغرات غير القانونية في التقارير الرسمية عن انتحار يسينين، وعندما حكيت ذلك للمرحوم د. محمد يونس في بغداد، سألني رأسا – (هل جلبت معك هذا المقال؟)، فقلت له – كلا، فقال محمد – (آه لو جلبته معك، فاني كنت سأقوم بترجمته الى العربية الان) .

الحديث عن انتحار او مقتل يسينين لازال مستمرا لحد اليوم في روسيا الاتحادية، فقد عرض التلفزيون الروسي – مثلا – قبل ثلاث سنوات مسلسلة بعدة حلقات عن حياة يسينين، وقد تابعتها بدقة في حينها، وكان من الواضح فيها الاشارة الى مقتل يسينين وليس انتحاره، ولكن الموضوع – مع ذلك - لم يكن نهائيا، ونقرأ في المصادر الروسية المختلفة عن آراء متنوعة، بل ومتناقضة بعض الاحيان حول هذه القضية، وقد قالت لي واحدة من زميلات الدراسة بجامعة موسكو (في تلك الايام الخوالي) مرة – (لم يتدخل يسينين في السياسة ولم يكن له مواقف محددة من مشاكلها، فلماذا يقتلوه؟)

 اود – ختاما لهذه المقالة – ان اشير الى مقالة جاءت قبل ايام ليس الا في صحيفة (ليتيراتورنايا راسيّا) الادبية الاسبوعية، الصادرة بتاريخ 20 – 27 حزيران / يونيو 2019، مقالة شغلت صفحتين باكملهما عن موت يسينين، حيث يعرض الكاتب كل هذه الآراء، ويدعو الى ضرورة دراستها بموضوعية ، لغرض الوصول الى الحقيقة بشأن هذا الموضوع المهم في تاريخ الادب الروسي، وهي دعوة صادقة تعبّر فعلا عن آراء كل المهتمين بالشأن الثقافي الروسي وعشاق ومحبي يسينين - شاعر (الصبا والجمال !)...

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم