أقلام حرة

وأزهرت شجرتي، شجرة زهر العنقود

جهاد الدين رمضانقضيت أجمل أيام طفولتي في دارنا العربية "دار الشيخ عبد السلام" التي تطل عليها شجرة معمرة مزروعة على الرصيف مقابل شباك غرفة الضيوف، تلك الشجرة من نوع أشجار الزينة العطرة، تزهر في منتصف الربيع زهرات ناعمة بيضاء على شكل عنقود العنب، اسميناها شجرة "زهر العنقود" دون أن نعرف اسمها العلمي أو الرسمي، واسمينا حارتنا الصغيرة في حي السكري الفقير جنوبي حلب باسمها، فعندما نبتعد عن الحارة ويسألنا سائل أين تسكنون؟ نجيبه بكل فخر : في حارة شجرة زهر العنقود.

شجرتي هذه تتأخر في تفتح زهراتها العطرة، وعندما تزهر تضوع رائحتها العطرة الزكية في الحارة كلها - في دارنا على وجه الخصوص - يمكن للمرء أن يشم أنفاسها العطرة من مدخل الحارة قرب بيت "العاشور"، حتى آخرها عند دكان القصاب "أبو علاء" في نقطة تقاطع شارع الحارة الضيق الصغير، مع الشارع الرئيسي العريض الطويل "شارع القادسية"، وكل من يمر بجانبها، ويشاهد زهورها، ويشم عطرها، يسمع صوتها الخفي يقول : شمّ وصلِّ على النبي، فيأخد نفساً عميقاً وبصوت مسموع يقول : اللهم صلي على الرسول .

و شجرتي هي ميدان شقاوتي، وهي سلم أحلامي نحو العلا، وهي موطن ذكرياتي وشجرة حياتي .. على جذعها وأغصانها تعربشت، حتى دخلت البيت من شباك غرفة الضيوف في الطابق الأول كالسعدان، وبين أغصانها الكثيفة المتشابكة، عن أعين رفاقي في لعبة "التغماية" اختبأت، وفي خشب ساقها بموس (مطوة) الأطفال الملون الصغير "أم العصفور" حفرت اسمي للذكرى، وفي تراب حوضها نكشت و"حفرت ودفنت " بعض النملات والأسرار بصمت (كنت أربي وأرعى سرّاً عشيرة نمل في وكر خفي صغير قرب جذعها الكبير). وتحت ظلالها في أيام الصيف القائظ جلست ووقفت ولعبت، وعلى فروعها وأغصانها زقزقت العصافير وطُرِبت .. كانت الشاهد الوحيد المخلص الأمين الساكت عن شقاوتي وشيطنتي، لم " تفسد" علي (تشي بي) ولا مرة، ولم تشكوني لأمي أو أبي، ولم تعاقبني قط برغم الأذى الذي ارتكبته مراراً بحقها عن عمد، فقط مرة واحدة عاقبتني بطرحي أرضاً من علٍ، لأنني تحاملت على غصن رهيف نحيف، لا قدرة له على احتمال "وزن الريشة"، فكيف يحتمل " الوزن الثقيل " مثل وزني أنا ابن السبع ثماني سنوات ما شاء الله وكان ؟!

ترعرعت تحت ظلالها، وكبرت بريح أريج عطرها، واشتد ساعدي من نسغ روحها، وفرحت وحزنت.. وأشد ما أحزنني يوم تركنا الحارة في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، وانتقلنا للسكن في حارة أخرى غير بعيدة عن حارة شجرتي، حارة غريبة  تتوسطها ساحة ترابية جرداء تفتقر للشجر والخضرة، وكنت أعزي النفس كلما اشتقت لحارتي القديمة بزيارة خاطفة للرفاق، نتسامر تحت شجرة زهر العنقود، ثم أعود للبيت الجديد ببضعة عناقيد مزهرة من شجرتي المحبوبة، لتزهر روحي من جديد.

ثم ابتعدت عن شجرتي أكثر وأكثر، فكنا نتنقل من حارة إلى حارة أبعد، ثم انتقلنا من حي السكري في حلب، إلى الحارة الشرقية في "دارة عزة" بجبل سمعان، ومن محافظة حلب إلى دمشق موطن الياسمين، ومن الشام الوطن إلى مصر السلام إذ قيل ادخلوها بإذن الله آمنين (في نهاية عام ٢٠١٢)، وحين افتقدنا الأمان بمصر في " رابعة " ذاك النهار، توجهت مع عائلتي الصغيرة إلى بلد المجد الغابر على تلال الأناضول والبحار الأربعة، ثم قذفتنا أمواج إحدى بحارها الأربع على شط جزيرة إحدى آلهة الاغريق، ومن العاصمة أثينا درة الجمال الاغريقي أكملنا الطريق، فرادى وبالتقسيط نحو أوروبا الإنسانية، وصرنا نحن الوالدين في بلد "ليالي الأنس" في فيينا بلا أُنسٍ ووطنِ، وصار ولدانا الشابان في بلد الألمان.

في رحلة العمر الطويلة المليئة بالشقاء، افتقدت شجرتي وحنو أيام الطفولة البريئة، وحين تركت بلدي مرغماً، شعرت بأنني شجرة "زهر العنقود" وقد اقتلعها الحقود من جذورها، ذلك الحقود اقتلع كل أشجار زهر العنقود الخضراء، وزرع مكانها أشجار "عناقيد الغضب" الحمراء، وبلدي بلد حمامات السلام البيضاء، تحول إلى غول أسود مخيف، كشّر عن أنيابه وافترس الجميع .

ومن لطف القضاء وتقدير الرب، صارت إقامتي في فيينا في بيت صغير من غرفة واحدة هي الكل في الكل، له حمام صغير بنافذة صغيرة هو ركني للتدخين، نافذة "وكري" هذا تطل على شجرة "زهر العنقود" مثل شجرة طفولتي، لكنها هرمة جداً تكاد تقول عنها تمثال شجرة من الخشب، ولولا شهر أيار وعودة الروح والخَضار إلى أغصانها، وتفتح الزهرات في عناقيدها، لما صدقتُ أنني أمام شجرة حية أزهرت من جديد، ففي الشتاء الماضي تساقط عليها البَرَد، وكساها الثلج من رأسها حتى أخمص جذعها، وقفت أتأمل منظر الدنيا وقد أضحت بياضاً في بياض، في الأرض والسماء، وتذكرت حارة شجرة زهر العنقود في السكري، أيام الثلجة الكبيرة عام ١٩٧٣ بعد حرب تشرين، حيث تراكم الثلج أمام البيوت في علو يزيد عن قامتي آنذاك، وحفرت البلدية ممراً ضيقاً للأهالي في منتصف الشوارع والأزقة، وكل صاحب منزل حفر ممراً قصيراً في الثلج يوصله بممر البلدية منتصف الشارع، هذا المنظر الأبيض المهيب علق في ذاكرتي ولم يبرحها إلى اليوم..

أشعلت سيجارتي، ووقفت خلف نافذتي، ارتشف قهوتي، وأتفرج على شجرتي يكسوها الثلج، وروحي يكسوها الحنين، فأنشدت مع الشاعر * الحزين :

يا ثلج قد هيجتَ أشجاني            ذكّرتني أهلي وأوطاني

……..                  …..

يا نفس نادي صاحب العرشِ          يا رازق النعّاب في العشِّ

و تدرّعي بالصبر ثم امشي            لا بدَّ بعدَ الجزرِ مِن مَدِّ..

ثم جاء الربيع، وذاب الثلج وبانَ المرج، وظهرت شجرتي عارية إلا من رحمة ربي، وجاء أيار شهر النوّار، وأزهرت شجرتي .

…و أراني طفلاً يلعب مع أولاد الحارة تحت ظلالها الحانية، وأرى أحمد وخالد وجمعة وعلاء ووليد وعمر وأمينة ونازك وخولة وحمودة، نتسلق أغصانها ونقطف من عناقيد أزهارها، فمتى تزهر يا وطني وتجمعنا من جديد ؟.

 

جهاد الدين رمضان - فيينا

....................

*القصيدة لشاعر المهجر اللبناني رشيد أيوب، درسناها في المدرسة الابتدائية هكذا، وفي الأصل يقول الشاعر في الشطر الثاني من مطلعها :

… ذكرتني أهلي بلبنانِ .

 

 

في المثقف اليوم