أقلام حرة

أشياء تتداعى في خماسية "مدن الملح"

احمد شحيمطالمكان الضائع في خماسية عبد الرحمان منيف سرد للماضي وتوقعات في المستقبل البعيد . وقول في المنسي من الحكاية لإعادة التذكير بكل ما لحق المجال من تغيرات. والذاكرة من نسيان . والذات من خلخلة في صميم تفكيك المجتمع البدوي وبناء المدن الكبيرة. وتمكين الناس من الثروة الباطنية من خلال الاستعانة بالآخر . تاريخ الشرق العربي قبل النفط وبعده في حكاية تاريخية واقعية أدخل عليها منيف لمسة روائية . من خلال شخصيات متعددة ومتخيلة تدور في اطار الصراع والرفض والتحدير من القادم . في لعبة الصراع والنزاع بين الذوات المختلفة على الفكرة من طرحها وتعزيزها أو رفضها . يقدم منيف وثيقة تاريخية عن تاريخ الامس القريب بالسرد ونوع من الاخراج الفني يدل على قوة المتخيل السردي ودقة الالمام بجزئيات الاشياء. شخصيات من زمن الامس في كل جزء من مدن الملح . التيه ومتعب الهذال ونجمة المثقال . ومن باقي الاجزاء "خريبط" وخزعل و فنر ومانع وابن الراشد وهاملتون وشعلان" ... حياة البدو في البادية العربية يصورها منيف في وادي العيون وحران. الوشائج والعلاقات الاجتماعية وتماسك القبيلة اشياء موجودة ومستمرة في الوجود بفعل تفاعل الناس. ايقاع المجتمع البسيط الذي يعيش منسجما مع القناعات والقيم الاصيلة في الثقافة . وحياة البساطة في مقابل البذخ .من الغيمة للبنايات العالية . ومن الترحال للسكون والاستقرار . فجأة تدخل القيم المادية الغربية . عربات والات وصنائع وأسلحة وأفكار دون أن يساهم فيها الانسان العربي . بيت القصيد في فكرة منيف ان الاشياء ليست نابعة من قيمنا ولا دخل لنا في انتاجها . وكان بالأحرى ان يكون التطور بعوامل ذاتية داخلية . وان مدن النفط أشبه ببالونات واكياس ملح قابلة للذوبان في لحظة ما . لعل الروائي يدق جرس الخطر للغد عن نقمة البترول الذي شكل مدنا هشة وتحولات غير موازية لما هو قيمي وحضاري .

تتداعى الاشياء شيئا فشيئا بفعل التحول الذي اصاب الارض والانسان . جرافات واليات تقتلع الرمال والتراب بحثا عن الذهب الاسود وكنوز الارض .قرى تتغير ملامحها والعمران البسيط ينسف بأكمله لبناء مدن جديدة وتعويضات واموال للناس حتى أصبحت الاشياء قابلة للبيع والشراء واغتنى الناس . نقلة نوعية في شق التراب والاستعانة بالجرافات والآلات الضخمة . فالناس في البادية في حيرة من الغرباء الذين جاؤوا من اماكن بعيدة . الامريكان ذوي البشرة البيضاء . اصحاب رؤوس الاموال . والباحثين عن نفائس الارض من المعادن والسوائل .

تتداعى الاشياء الجميلة في قوة الروابط والوشائج التي جمعت الناس في مجتمع بسيط يعيش على الكفاف والعفاف . أو يعيش في تكتلات بدون طبقية . هذا التيه وليد مرحلة مفاجئة من التغير الذي اصاب النفوس والعمران . وبانتقال الانسان المفاجئ من البداوة الى الحضارة. من الترحال الى الاستقرار وبناء المدن الإسمنتية . المدن التي كان الناس يفرون منها . "حران" القرية الصغيرة على البحر. اصبحت مدينة كبيرة تستقطب اعدادا من الوافدين والحالمين بمستقبل افضل في ظل الثروة النفطية . شخصيات متخيلة في السرد من زمن الماضي . ويتعلق الامر بمتعب الهذال الذي نادى بصوت عال من الحكمة والترقب لما يمكن أن تصير عليه مدن الملح . حتى اصبح النداء بمثابة صرخة ورنين يسمع في مكان . صيحة لأجل الحقيقة . يعني عدم الرضى عن الواقع وأصحاب القرار في التحديث السريع . شخصية الهذال الحامل للقيم والمبادئ الاخلاقية والرافض لهذا النوع من التغيير في البيئة العربية . ان كانت الشخصية واقعية وحقيقة من أحد شيوخ العرب فان الروائي سكب عليها الوانا اخرى في الرفض وعدم القبول بالوضع العربي في العشرينات من القرن الماضي. القبول بالتحديث ممكن والرفض للآخر بمعايير ثقافته في الانفتاح غير مقبول. رسالة متعب الهدال للكل هي بالفعل رسالة للأمير والناس. واختفائه دليل عن عدم الرضى والخوف من المجهول . شخصيته القلقة ورفضه للواقع الجديد دون التلويح بالعصيان أو حمل السلاح وتحريض الناس على مقاومة الدخيل والغرباء. فمن المصلحة . تماسك الجماعة والاجدر الابقاء على الوحدة . رحيل متعب الهذال عن الوادي بمثابة رفض . يصبح طيف . يظهر ويختفي . شبحه يبقى قائما في التنديد والتحدير .واقواله منتشرة عند الناس في التعبير عن المكان الضائع . والزمن الذي انكسرت لحظاته عندما دخل الغرباء للمكان. وبفعل سياسة غير محسوبة العواقب .

يرفض الهذال الميل نحو الفكرة التي لم تكن نابعة من عمق الثقافة والتقاليد . فيها نوع من التسرع في انتشال الناس من قيمهم . وفي تحويل البدو من السكون والالفة وتقاليد الماضي البعيد والقريب نحو افق مجتمع استهلاكي .ونحو ثقافة تتجلى معالمها في صراعات على السلطة والحكم . تلك التحولات يرصدها الروائي في المجال السياسي والاجتماعي في الاجزاء الاخرى من مدن الملح . في "الاخدود " ومشكلة الحكم في الجمع بين الثروة والسلطة . وتوريث الحكم للأبناء. وفي الاجزاء الاخرى حقائق عن الصراعات والنزاعات التي تؤدي الى تحالفات .وهكذا ا ينتهي المشهد السياسي من السيطرة الى الاغتيال وبالتالي تكون الاوضاع في المدن الجديدة بالوصف الذي أراد من خلاله عبد الرحمان منيف توضيح فكرة التحولات القيمية والمجالية في الصحراء العربية . ولذلك تخيل شخصيات ومنحها دلالة للتعبير والرفض وتكونت بذلك مخاوف وهواجس من التغيير المفاجئ للبيئة والانسان معا . في محاولة للتعبير عن علاقة السياسة بالمال وعلاقة الانا بالآخر . والذات بالجماعة . فليس متعب الهذال أو نجمة المثقال الا شخصيات تمتلك وعيا اجتماعيا بالواقع وملامح المستقبل الذي يتشكل من تغيير معالم الواحات في وادي العيون . وتحول البدو من حياة الترحال. وشظف العيش وقوافل الجمال الى سكان المدن والبيوت الاسمنتية . وبمحاذاة ساحل البحر تكونت موانئ لتصدير النفط . واصبح المكان يعج بالغرباء . تحالفات مع الامريكان والانجليز والضرب بقوة كل من يعترض أو يخالف التوجهات العامة التي تصب في مصلحة الشعب . شخصية هاملتون الذي جاء من لندن فأصبح يلازم السلطان. ويسعى بكل جهد الى تغيير قيم الصحراء ومعالم الطبيعة الصحراوية . يجسد هاملتون الغرب الرأسمالي في محاولته للهيمنة والسيطرة على خيرات المنطقة بالحيلة والدهاء . ويرغم الحاكم على تنبني سياسة جديدة في الحفاظ على السلطة . وتكريس القوة في مجابهة التمرد الداخلي . لذلك نجد هاملتون ينصح الحاكم بقراءة التاريخ واتباع نصائح كتاب "الامير" لدى ميكيافيلي . باتباع نهج يتسند على الليونة والشدة. حتى يتمكن من تثبيت السلطة. وتنفيد القرارات وبالتالي تغيير العقول والنفوس نحو تقبل المدنية الجديدة . من الاشياء التي تتداعى وتفقد قيمتها الالفة والعيش المشترك بدون طبقية غير التقاليد والقيم الضاربة جدورها في التاريخ . الثروة النفطية هنا في خدمة الامة . وفي سبيل أن ينهض الوطن للتنمية وبناء الحضارة . هذا الطموح لا يعكس وجهة نظر متعب الهذال ولا يسكن فؤاد الراوي الذي عايش الكثير من الاحداث وشاهدها من خلال الخبرة في مجال الاقتصاد والسفر في كل الاوطان المنتجة للذهب الاسود .والاحتكاك بالثقافة المحلية والغربية .

يدرك الراوي بالتمام أن الثورة النفطية لم تساهم في نهضة العالم العربي بقدر ما رسخت الريع الاقتصادي والتبعية الاقتصادية للآخر. في تبادل المنتوجات المصنعة بالخيرات الطبيعية .وازديار الاطماع الاجنبية .والزيادة في التوتر والصراعات في المنطقة . طموح عبد الرحمان منيف أن تكون النهضة بأدوات ذاتية . من التدرج والتأني والانفتاح بوسائل داخلية خالصة . نوايا ومقاصد عبد الرحمان منيف من مدن الملح أن يستفيق العالم العربي من سباته نحو نهضة فعلية من صميم عمل الانسان في تدبير الوقت. وترشيد الموارد والعناية بالإنسان . أن يكون الانتقال من البداوة للحضارة بالكيف وليس بالعمران والبنايات الزجاجية  . وتحويل الصحراء الى مدن اسمنتية. تلك المدن قابلة للذوبان . مدن كما قال عنها عبد الرحمان منيف أنها بنيت بشكل غير طبيعي . وليست نتاج تراكمات بل هي نتاج الثروة النفطية . مخاوف مشروعة واستباقية من انسان خبر المكان والذهنيات وعاش كخبير في مجال النفط ومسافر في دروب وشوارع العالم العربي . وتعرف على خبايا الاشياء واحس بالحاجة للتثاقف والعبور بالعالم العربي نحو افاق أرحب في استنبات الديمقراطية والحرية. وفق جهد الانسان في تنمية داخلية بسواعد وطاقات ذاتية .

فالأشياء التي تنهار وتتداعى يعبر عنها منيف في الانتقال من قيم اصيلة الى قيم مصطنعة في بيئة عربية تحتاج للتدرج والتلاؤم بين عالم الاقتصاد والثقافة والسياسة . يذكرنا هذا الامر بأبو الرواية الافريقية تشينوا أتشيبي من نيجيريا الذي كتب رواية " اشياء تتداعى" عن الاستعمار لإفريقيا والسيطرة عليها بفعل دهاء المستعمر المدجج بالسلاح والدين . فاستطاع ان يغير من التقاليد والعادات .وحكم على الثقافة المحلية بالتخلف والجمود . وبذلك انقسم الانسان الافريقي بين تابع ورافض . ومن شخصيات الرواية "أوكونكو" الذي يمكن اعتباره صوتا ينادي بالحق والتحدير من دهاء ومكر الاخر الذي جاء غازيا ومستعمرا لأرض افريقيا الخصبة والغنية بالمعادن النفسية والطبيعة البكر . ظلت الشخصية المحورية تنادي بالحذر. وانتهت الحكاية الى نهاية مأساوية حيث أصبح "أوكونكو" مطاردا في بلدته ومنبوذا من طرف الغرباء. ولم تدافع عنه القبيلة. وانتحر اخيرا رافضا الاسر والذل على الاستسلام للمستعمر. اشياء تتداعى وتتزايد معاناة الافارقة مع الاستعمار والاستنزاف الاقتصادي والتبعية السياسية والثقافية . ويعود الروائي من جديد ليكتب بلغة الاخر لإسماع الصوت المنسي والتعبير عن طموح الانسان الافريقي في تحقيق العدالة والحرية والسيادة على خيراته .

لقد عبر كل من أتشيبي في افريقيا وعبد الرحمان منيف في الشرق العربي عن قلق المثقف من أحوال الاوطان التي تصارع من اجل اثبات الذات .ومن اجل السيادة على الارض وترك الانسان يحدد مصيره لوحده . وفي علاقة الذات بالآخر يكون الانفتاح والتلاقح نابعا من الرغبة المتبادلة في تبادل المنافع والاشياء المادية واللامادية . اشياء تتداعى بفعل التحولات السريعة من الثروة النفطية .ومن الانتاج الوفير الذي نقل البدو من عالم بسيط الى مدن كبيرة بدون تدرج . وتلك نظرة منيف للأشياء . فيقول دائما في اللقاءات الاعلامية والحوارات أن الانسان العربي في حاجة للديمقراطية والحرية . في حاجة الى نهضة شاملة من الداخل وباليات ذاتية .في حاجة للتنوير والوعي بالتاريخ وشروط نهضة الامم .

 

احمد شحيمط

 

في المثقف اليوم