أقلام حرة

فلسفة الظاهر والباطن وحكمة الإصلاح (2-2)

ميثم الجنابي"لا تلتفت إلى ما مال إليه البعض من لا يعرف

 وجوه التأويل ولا يعقل كلام أولي الحكمة"

(الغزالي) 

 أبدعت الصوفية فكرة "حجاب العقل" بالصيغة التي حاولت فيها تقويم العقل في مدارج آدابها. وهي الصيغة التي تتعارض مع الاستهجان الفج للتقليل من شأن العقل. إذ لا تعني رمزية حجاب العقل في مدارج آدابها سوى ضرورة تعريضه "للهيب أنوارها" بتخليصه من شوائب التعصب المذهبي والتقليد. وهي الشوائب التي واكبت صيرورته الثقافية. فالصوفية لا تتناول هنا العقل المنطقي بل عقل الوجود الثقافي. وهي الصيغة التي أسس لها في  آرائه ومواقفه من العقل وما وراء العقل. وليس مصادفة أن يتكلم في آن واحد عن حجاب العقل ونور الحكمة باعتبارها عقلا. أما العلاقة المتناقضة في مظهرها فهي الصيغة المناسبة لإعادة إدراك الوحدة المتناسقة بين الظاهر والباطن. وذلك لأن هذه العلاقة تمتلك مستوياتها العديدة وتجلياتها العديدة. فهي تظهر في الوجود والميتافيزيقا كأجزاء متناثرة في قضايا المُلك والملكوت.أما في الثقافة فإنها تتجلى في ممكنات الوحدة المفترضة بين العقل المكتسب وحقائق الحكمة المطلقة. وبما أن العقل الإسلامي المكتسب هو عقلها الذاتي المتنور منذ بداياته الأولى بنور الحكمة القرآنية، لهذا تحوّل القرآن إلى نور حكمتها المطلقة أو إعلانها. فالغزالي لا يتكلم في الواقع إلا عن العقل في علاقته بالقرآن. من هنا مقارنته للعقل بالنور، والقرآن بنور الشمس[1]، أي كشف الصلة الضرورية والمثالية بينهما. إذ لا يعني حجاب العقل هنا سوى ضرورة إزالته. فالعقل قادر على كشف الأسرار الباطنة والمعاني الخفية في القرآن بالصيغة التي تجعلها ظاهرة وجلية. فالظاهر هنا هو اكتشافاته، والباطن هو حقائق المعاني. وهي عملية لا تنتهي بفعل تواجدها الدائم في الإبداع ذاته.

وفيما لو أهملنا تناول هذه القضية من زاوية علاقة العقل بالشرع فإنها لا تعني في ميدان تأسيسه الفكري لعلاقة الظاهر بالباطن سوى محاولة الكشف العقلي النوري (الذوقي)، والذي يتطابق في صفته الوجودية والمعرفية مع فكرة وحدة عوالم المُلك (الحس) والملكوت (العقل وما وراء العقل). أما التباين الحاد أو الثنائية البارزة هنا فهي الصيغة الظاهرية لا غير. حيث يجري اختزالها في العروج المعرفي الأخلاقي في مجرى الارتقاء من الحس إلى العقل. وفيها تتبين بوضوح معالم العلاقة الأولية بين عوالم المُلك والملكوت، باعتبار الأول مثالا ملموسا للثاني. مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إدراك وحدة الكلّ باعتبارها إدراكا لله. وهو العروج الذي يتخذ عند البعض "حالة العرفان العلمي"، وعند البعض الآخر حالة "الذوق والحال"[2].  وهو ما سعى الغزالي لتوحيده في بسط فكرة "سلطان العقل الذي هو ميزان الله تعالى في أرضه"[3]. ولا يعني ذلك في منظومته سوى إعادة اللحمة إلى عوالم المُلك والملكوت في إدراك حقائق الوجود من خلال العقل (نور اليقين) المستند إلى التجربة الصوفية. "فالصراط المستقيم" على سبيل المثال هو أيضا عملية الترّقي من عالم المُلك إلى عالم الملكوت. ولا يمكن توقع حدوثها دون وجود مناسبة بينهما. إذ ما من شيء في هذا العالم، كما يقول الغزالي، إلا وهو مثال لشيء من ذلك العالم.ومع ذلك لم ينظر الغزالي إلى هذه العلاقة بمعايير المقابلة الميكانيكية، بل بمعايير علاقة التباين الموحّد وإمكانية أن يكون الشيء الواحد في عالم الُملك مثالا لأشياء عديدة من عالم الملكوت، وإمكانية أن يكون للشيء الواحد من عالم الملكوت أمثلة كثيرة من عالم المُلك[4]. وفي هذا التباين الموحّد تكمن الصيغة الجديدة التي وضعها في موقفه من وحدة وعلاقة الظاهر والباطن. بحيث جعله ذلك يعيد في معرض انتقاده للباطنية والحشوية في (مشكاة الأنوار) ما سبق وإن وضعه في (إحياء علوم الدين)، وأن يبقى في الوقت نفسه ضمن نفس الاتجاه العام. فعندما يتناول، على سبيل المثال، قضية "خلع النعلين" الموسوية، فإنه يشير إلى أن "إبطال الظواهر هو رأي الباطنية، الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد النعلين"[5]. بمعنى جهلهم بالموازنة. وينطبق هذا بالقدر ذاته على الحشوية. أما الكامل فهو الذي يجمع بينهما. ولا يعني هذا الجمع في لغة الغزالي سوى توليفهما الجديد على أساس وحدة الظاهر والباطن. مما جعله يعبّر عن أعماق موسى، بأنه فهم من خلع النعلين إطرّاح الكونين فامتثل الأمر ظاهراً يخلع نعليه وباطنا بخلع العالمين[6].

إن هذه الوحدة الجديدة لاستيعاب علاقة الظاهر بالباطن، تبدو في مظهرها كما لو أنها تمثل للظاهر في المظاهر والباطن في البواطن، أي كما لو أنها تحاول اختراق عالم الإنسان الواقعي في بحثها عن تجانس معقول في ما بينهما. إلا أن هذا هو مجرد مظهرها العام. وذلك لأن الباطنية والظاهرية الغزالية لم تعد مجرد ترتيب معقول وتنسيق ممكن لدرجات الوعي ومستوياته، بل والوحدة المثلى لتناسق الممكن، والذي يصهر الظاهر والباطن فيما وراء معقولية الأشكال العابرة، باعتباره الروح المتجدد لإدراك حقيقة الحق. وبالتالي تحويل الوحدة إلى الحالة التي تتحول فيها أعماق الإنسان إلى جزء من الكون ذاته في أدق تجلياته. مما يجعل من هذه الاعماق ميدان السرّ الفاعل، والحرية المطلقة في إدراكها للظواهر، و"العبودية الظاهرية" للسحرية الداخلية. وبهذا المعنى تنتفي الغرابة في الوجود. حينذاك  يتحول الوجود إلى ميدان الأنا الكلية العارفة. مما يعطي للتناقضات قيمتها المعقولة في العقل ومعناها الأسمى في الأخلاق.

إن غياب تعارض المتعارضات وتناقض المتناقضات المميزة "للعقل المستقيم" ما هو إلا إدراكها الجديد في الحقائق المتناسقة لقيم ومعاني الوحدة الظاهرية الباطنية. وقد جعل ذلك من الممكن تحول العالم والكلمة أيضا إلى كيان وجودي معرفي أخلاقي. إذ لم تعد الكلمة مجرد أصوات وحروف أو أفكار وهواجس، بل والنغم الذي يجمع في ذاته وحدة العابر والمطلق في الروح الانساني الإلهي. فهي النغمة غير المسموعة بفعل قوة تداخلها وغورها العميق، والمسموعة في مجرى إدراك ذوبان الذات في سريان الوجود، باعتبارها كلاّ منفرداً، وكلاّ جمعيا، وكلاّ مطلقا.

لقد وضع هذا الاستنتاج أمام الغزالي مهمة التنظير الشامل لعلاقة الباطن بالظاهر، والتي يصعب حلها دون الاستناد إلى تجارب الباطنية والظاهرية الإسلامية ككل. من هنا انطلاقه في البرهان على ضرورة وجود علم الباطن. وهي الضرورة التي جرى صياغتها في تاريخ الفكر الإسلامي (الكلامي والسياسي والفلسفي والصوفي) لقرون خلت قبل الغزالي. وعندما استشهد بآراء سهل التسترى، فإنه لم يسع من وراء ذلك إلى تنظيره في اطار تفسير إحدى الأفكار العميقة للتصوف، بقدر ما انه وجد فيها المثال المناسب في ذاته للكشف عن حقيقة الظاهر والباطن ووحدتهما في علم العلماء وعملهم وأثرها في آفاق وإدراك الوجود والنفس (القرآنية والثقافية)، أي الفكرة القائلة بأن للعالم ثلاثة علوم: العلم الظاهر لأهل الظاهر، والعلم الباطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وأخير العلم الذي بينه وبين الله لا يظهره لأحد. ولم يقف الغزالي عند حدود التصنيف الخاص بالصوفية في إدراكها الذاتي لموقفها وتجاربها المتميزة، بل وحاول إدراجها في بنية الكلّ الإسلامي من خلال توليف المجاهدة الصوفية بالحد الوسط، أي صياغة علاقة الظاهر بالباطن والشريعة بالحقيقة بالاتجاه الذي يحافظ على صحة الفكرة الصوفية، التي عبّر عنها التستري ومعقوليتها العملية، أي فكرة "إن إفشاء سرّ الربوبية كفر. وإن للربوبية سرّ لو أظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سرّ لو كشف لبطل العلم. وللعلماء بالله سرّ لو اظهروه لبطلت الأحكام". وهي المعقولية التي كانت تتضمنها أخلاقية الفكرة الصوفية والقائلة بأن "الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه". لقد أراد الغزالي إزالة التناقض الممكن بين الظاهر والباطن، أو خلاف الحقيقة والشريعة. فهو يؤكد على أن معارضة الحقيقة بالشريعة والظاهر بالباطن هي إلى الكفر أقرب منها إلى الإيمان. وهو الحكم الذي يعكس في أعماقه انتقاد الباطنية الغالية بما في ذلك في "أغلاط" الصوفية، لا موقفه المعارض من أسلوب الباطنية بحد ذاته أو حتى أسلوبها ككل.

إن المضمون النقدي لهذه المواقف عند الغزالي هو جزء من نظريته الاجتماعية والأخلاقية والقانونية. بمعنى أنه ليس جزءا من تقاليد المناهضة المدمرة أو الاستهجان المقبح لتقاليد الفضائح المميزة لصراع الفرق والمذاهب، بل الصيغة النقدية المتنامية في مجرى وعيها الخاص لمبادئها الأساسية. فهي الصيغة التي يفترضها منطق الحدود الوسطى واشتراط فاعليتها في الوجود الاجتماعي للأمة. فقد أنتج تاريخ التصوف "أغلاطه" في "غلّو" الشطح والأفعال والتأويل. وبهذا يكون قد ميّز بين الشطح في التجارب، والأخلاق في السلوك. لهذا السبب أفرد الطوسي في كتاب (اللمع في التصوف) فصولا عديدة عما اسماه بأغلاط الصوفية، أي كل ما يمكن ادراجه في قانون ضبط النفس. لذا نراه يتكلم عن غلط البعض في الموقف من الغنى والثروة وإجازتهما انطلاقا من أن الله هو الغني، وأن التصوف يساوي بين الغنى والفقر. إذ وجد فيها تأويلات خاطئة لفهم حقيقة الآيات ومضمونها ومقاصد المتصوفة من استواء الغنى والفقر.، باعتبارها حقا وحقيقة عند أهل الحقائق والمعارف عند النهايات لا في البدايات[7]. وينطبق هذا بالقدر ذاته على مواقفه من أغلاطهم بصدد المواقف من مختلف القضايا والآداب كالاكتساب والإرادة والعزلة والحرية والعبودية ومقامات الإخلاص والولاية وغيرها. أما انتقاد الغزالي لأغلاط المتصوفة فقد كان جزءا من انتقاد الكلّ الإسلامي في ميادين غروره.ومن ثم مساهمته في تهذيب هذا الكلّ بمختلف ميادينه ومجالاته.

 فالغزالي لا يكفّر  أسلوب وضع الظاهر بالضد من الباطن، بقدر ما انه ينظر إليه بمقارنات تناقض الكفر والإيمان. أنه لا يدين الظاهرة بحد ذاتها. ومن ثم يقر بإمكانية وجود التناقض النسبي بين الظاهر والباطن. لكنه يقف بالضد من أسلوب وضع أحدهما بالضد من الآخر. لهذا السبب وضع هذه القضية وحاول حلها من خلال إدراجها ضمن قضايا علم المعاملة، والاهتمام بالجانب العام لا الخاص، وبالإيمان العقائدي (التقليدي) لا الفردي الصوفي الخاص. انه تتبع أسلوب التستري وليس الإقرار المباشر باستنتاجاته. وهو الاتجاه الذي ميّز منظومته الفكرية وروحها النقدي في توليفها لتراث الثقافة الإسلامية ككل وتقاليدها الإصلاحية بالأخص.

إن التناقض الظاهري الممكن هنا هو نتاج الوهم لا تناقضه الفعلي. وينطبق هذا بالقدر ذاته على ما أدخله في فكرة السرّ الصوفي ومحاولته حل خلاف الظاهر والباطن على أساسها. إذ لم تكن الفكرة الصوفية عن السرّ شكلا من أشكال هزيمة الروح في معاركه الجسدية مع السلطة، رغم أن الهزائم تعلم الجميع فنون الحرب. لكن الغزالي لم يطوّع تعامله مع "السرّ الإلهي" للدفاع عن الصوفية بقدر ما انه حاول توليف آرائها في منظومة تعطي لهذا السر ّمضمونا اجتماعيا سياسيا وأخلاقيا فاعلا يرتكز في نهاية المطاف على أسس الوحدة الداخلية المتناسقة للباطن والظاهر وللحقيقة والشريعة. إذ لا يتعلق عدم إفشاء السرّ بتناقض الظاهر والباطن بقدر ما انه يعود لأسباب عديدة منها، على سبيل المثال، ما هو دقيق يكلّ الفهم عن إدراكه إلا للخواص مثل حقيقة الروح. فهو السرّ المعلوم للخواص، الذي قد جلب المضرة للعوام بسبب إمكانية تأديته إلى إثارة البلبلة. فالصفات الإنسانية تختلف اختلافا جوهرياً عن "الإلهية". إلا أن الإنسان يدركها بالمقايسة. وبالتالي فإن الإنسان لا يدرك في الجملة إلا صفات نفسه ونفسه. من هنا استحالة إدراك الذات الإلهية. بمعنى لا يعرف الله حق المعرفة إلا الله. ولكن يوجد مع ذلك ما هو مفهوم في نفسه ويمكن فهمه من قبل الآخرين. إلا أن ذكره يضر بأكثر المستمعين كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة لسرّ القدر. فقد يكون ذكره مضرا للبعض كما يضر نور الشمس الخفافيش، أو ماء الورد للجعل. إذ كيف يمكن فهم قولنا بأن الكفر والزنا والشرور والمعاصي كله بقضاء الله وقدره؟ ألا يؤدي ذلك إلى نقيض الحكمة والسنّة والرضا بالقبيح؟ وينطبق هذا بالقدر ذاته على قضايا كثيرة مثل تحديد القيامة بالزمن، كأن يكون بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر. وذلك لأن عدم ذكره هو لمصلحة العباد وخوفا من الضرر. بمعنى إن أثر الزمان المحدد يؤدي إلى الغلوّ في السلوك اكتراثا أو لا ابالية. بينما توجد أشياء يمكن فهمها في حالة ذكرها صراحة ولكنها تكنىّ على سبيل الاستعارة والرمز مثل قولنا "لا تضع الدر في أعناق الخنازير"، أي لا تضع المعرفة في غير محلها. من هنا ضرورة فهم الأسرار الموضوعة في الكلمات على خلاف ظاهرها أما بدليل عقلي أو بدليل شرعي مثل معنى القدرة في كلمات "أصابع الرحمن"، وغاية الاقتدار في كلمات "كن فيكون". من هنا مطالبته المرء بأن لا يلتفت "إلى ما مال إليه البعض ممن لا يعرف وجوه التأويل ولا يعقل كلام أولي الحكمة والراسخين في العلم، حين ظن أن قائل لا تحدثوا الناس بما لم تصله عقولهم أراد الكفر الذي هو نقيض الإيمان والإسلام"[8]. حيث وجد في ذلك حكما لا يخرج "إلا على مذاهب أهل الأهواء الذين يكفرون بالمعاصي"[9].

مما سبق يبدو واضحا بأن الغزالي حاول وضع فكرة السر ّفي اطار استكمال الباطن للظاهر لا تعارضهما أو اختلافهما. فهو ينطلق هنا من أن الإنسان عادة ما يدرك الشيء في جملته أولا ثم يدركه تفصيلا بالتحقيق والذوق، بحيث يتخذ تحول المعرفة الجملة شبها بمعرفة الظاهر، أما المعرفة اللاحقة (التحقيق والذوق) فتشبه معرفة الباطن (اللباب). فالأولى هي معرفة ظاهرية والثانية باطنية. وكلاهما مثل رؤية الإنسان لإنسان آخر في حالتي الظلام أو البعد. وحالما يقترب منهما يدرك التفرقة بينهما.حينذاك لا يكون "الآخر ضد الأول، بل هو استكمال له"[10]. وطبق موقفه هذا على كافة القضايا الأساسية المتعلقة بالظاهر والباطن وكذلك إدراكها من خلال وضعها على محك التجربة. لهذا نراه يشدد على أن للإنسان تصورات عن الشهوة والعشق والجوع إلا أن معرفة حقائقها غير ممكنة دون تذوقها. بمعنى ما قبل وفي مجرى وما بعد ممارستها من أجل إدراك حقائقها فيها وفينا.

لقد شكلت هذه المقدمة الفكرية أساسا للغزالي في توكيده على ضرورة وأهمية وجود الباطن والتأويل. إذ لو كان المعنى هو الظاهر فقط لما اختلف الناس فيه[11]. من هنا أهمية إدراك الباطن باعتباره الشيء الأكثر جوهرية والمطلق المتجلي في نسبيته الدائمة والحقيقة في وحدة ما دعته الصوفية "التعبير بلسان المقال عن لسان الحال"، أي عدم الوقوف عند الظاهر بل والدخول إلى حقيقة السر فيه من أجل إدراكه. وهنا يكون الغزالي قد فسح المجال أمام الإمكانية غير المتناهية للفكرة الباطنية. لكنه لم يجعلها في الوقت نفسه فضفاضة المعنى. من هنا تأويلاته المقيدة في حريتها. فعندما تناول كلمات القرآن التي يخاطب بها الأرض والسماء قائلا "ائتيا طوعا أو كرها. قالتا أتينا طائعين"، فإنه حاول من خلالها إبراز معنى الضرورة والاضطرار في التسخير والسخرة. وهي الصيغة التي ملئ بها الربع الأخير من (إحياء علوم الدين) حيث تظهر بوضوح وجلاء متزايد ملامح نظرته عن علاقة الظاهر بالباطن ووحدتهما. وإذا كانت هذه العلاقة تتخذ أحيانا صورة الخلاف في أمثلته الملموسة فليس  ذلك إلا لأنها أمثلة وحيدة لكشف تحول المجرد إلى الملموس، والملموس إلى مجرد في حركته الدائمة، أي الوحدة في المعنى. فعندما يأخذ الدنيا مثالا للآخرة فإنه يحاول أن يكشف عما في الظاهر من باطن. إذ لا يمكن إدراك الآخرة في عالم المُلك، كما يقول الغزالي، إلا بمثال منه. بمعنى لا يمكن فهم حقائق الآخرة دون فهم حقائق الدنيا أو مثال الآخرة دون عناصره ومكوناته الملموسة في الدنيا. فعالم المُلك هو مجرد نوع لعالم الملكوت. من هنا عبارته القائلة بأن "ما سيكون في اليقظة لا يتبين في النوم إلا بمثال، وما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في مثال"[12].  وهو أسلوب استطاع أن يؤدي دوره الفاعل في تهشيم أسس اللاهوتية المتحجرة والهيبة التقليدية للفقهاء والسلطة، وبالأخص من خلال صياغته المتعمقة لوحدة عوالم المُلك والملكوت على مثال عوالم النوم واليقظة أو العابر والمطلق في حقيقة العلاقة بالله.فالظاهر والباطن في نهاية المطاف هما مجرد انسابٍ نسبية لأنه لا ظاهر ولا باطن عند الله. ووضع هذه الصيغة المجردة في صلب مقدماته الأخلاقية، باعتبارها إلزاما متساميا حقا في إمكانية التنقية المتزايدة للموقف الاجتماعي الشرعي  من مختلف قضايا العادات والعبادات. الأمر الذي حدد بدوره الاتجاه الاجتماعي والأخلاقي الكامن في تنظيره لعلاقة الظاهر بالباطن. فعندما يناقش تلجلج الفقهاء الظاهرى في رؤيتهم استتباع أحكام الله لأحكامهم وقضائهم، فإنه شدد على معاكسة ذلك من خلال ابراز حقيقة كون الباطن عند الله ظاهر. وبالتالي فإن أدلة ونتائج "سوط القلوب" كالكلمة الغاشمة والإجبار والمصادرة وما شابه ذلك لا وزن لها في ميزان الحق الإلهي وقواعد أخلاقه المتسامية[13].

لقد تمثل أسلوب الغزالي في التعامل مع قضايا الباطن والظاهر نتاج الفكر الإسلامي ككل، ولكن بالصيغة التي جرى صهرها في تآلفه النظري. إذ يمكننا العثور هنا على عناصر شتى لمدارس الجهمية والشيعية والمعتزلة والأشعرية، الفلسفية والتعليمية (الإسماعيلية) وتقاليد التفسير اللغوي والتاريخي والكلامي، والتأويل الصوفي. إلا أنها تضمحل في تناسق المكونات العقلية والأخلاقية لمنظومته الفكرية. ففي مواقفه من الباطن والظاهر تنعكس "أسرار" وبقايا الفيثاغورية والاسماعيلية الباطنية، لكنه لم ير في الإنسان معياراً لكل شيء. لقد وضع فكرة الحق المطلق معيارا للمعرفة، بينما يتحول الإنسان في ميدان التأويل إلى مثال الفكرة المطلقة في ظهورها الملموس. فعندما تناول قضية القيامة الصغرى والكبرى (الموت والقيامة) فإنه يؤول الآيات من خلال موشور الوحدة المتماسكة بين الظاهري والباطني (الأرضي المادي والروحي الإلهي). فالأرض التي يجلس عليها الإنسان بالإضافة إلى بدنه هي ظرف ومكان. لهذا السبب يخاف الإنسان زلزلة مكانه لأنه يزلزل بدنه الخاص. فالأرض هي أرضه وترابه، وعظامه هي جبال أرضه، ورأسه هو سماء أرضه، وقلبه هو شمس أرضه، وسمعه وبصره وسائر حواسه هي نجوم سمائه. ومفيض العرق من بدنه هو بحر أرضه، وشعره نبات أرضه، وأطرافه هي أشجار أرضه. فإذا انهدم بالموت أركان بدنه فقد زلزلت الأرض زلزالها. وغذا انفصلت العظام عن اللحوم فقد حملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة. فإذا رمت العظام فقد نسفت الجبال نسفا، فإذا اظلم قلب الإنسان عند الموت فقد كورت الشمس تكويرا. وإذا بطل سمعه وبصره وسائر حواسه فقد انكدرت النجوم انكدارا. وإذا انشق دماغه فقد انشقت السماء انشقاقا. وإذا فارقت الروح الجسد فقد حملت الأرض فمدّت حتى ألقت ما فيها وتخلّت[14]. بينما وجد في الآية (أفمن يمشي مكبا على وجهه كمن يمشي سويا على صراط مستقيم) إشارة للفريقين المختلفين، اللذين يأخذ أحدهما في نظرته إلى الحقيقة المعاني من الألفاظ، بينما يلحظ الثاني المعاني أولا ثم يتطلع على حقائقها ثم يلاحظ الأسماء[15]. في حين أوّل الآية (ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) انطلاقا من مفاهيم القرب والبعد من الله. فقد خلق الله الخَلق وفطرتهم الاحتياج إلى استعمال الشهوات لتكمل بها أبدانهم. غير أن هذه النِعم يمكنها أن تكون آلة للابتعاد عن الله، وأن ترده بالتالي إلى أسفل المراتب، أو أن تكون آلة للانجذاب إليه[16]. بينما تحولت الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) في تأويله الصيغة المجردة لضرورة استيعاب الحكمة الإلهية في وجود الأشياء. فالكفر بنظره هو استعمال الشيء لغير وجهته. وبما أن الفضة والذهب لا غرض لهما بحد ذاتهما، إنما هما وسائل للأغراض، فكنزهما هو العجز عن "قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة في صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت، والذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة"[17]. وأما معنى "اعتبروا يا أولي الأبصار" فهو العبور من عالم المُلك والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت. وذلك لأن عدم العبور هو حبس النفس عند أبواب جهنم. وبما أن الحجاب لا يزول إلا بالموت آنذاك سيدرك الإنسان نار الأفئدة. من هنا قول القرآن (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم. ثم لترونها عين اليقين). فالحجج يدركها البعض في الدنيا مرة بعلم اليقين ومرة بالآخرة بعين اليقين[18]. في حين اتخذت الآية (لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) في تأويلاته مثال للدلالة على فكرة الوسط الأخلاقي المجرد ودليلاً على رجحان العدل وحسن الخُلق. فالتقليل من الأكل عبادة. وخصي النفس لإزالة شهوة النكاح أو الانهماك بها هو خسران الميزان. في حين إن العدل هو أن يخلو وزنه وتقديره عن الطغيان فتتعدل به كفتا الميزان[19]. في حين عبّرت الآية (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين، فلما نجاهم إلى البر إذ هم يشركون) عن أن من انكشف له أمر العالم كما هو عليه، علم أن الريح هو الهواء، والهواء لا يتحرك بنفسه ما لم يحركه محرك. وكذلك محركه وهكذا إلى أن ننتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه (الله). فالتفات الإنسان في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخذ لتحزّ رقبته فكتب الملك ترخيصاً بالعفو عنه، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم[20]. أما معنى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر)  فيشير إلى مثال لمناجاة ذرات الوجود مع أرباب القلوب في السرّ. وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى. إذ أنها كلمات تستمد من بحر كلام الله الذي لا نهاية له[21]. ولا تعني الآية (وما خلقنا السموات والأرض وما بينها لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق) سوى إشارة إلى درجات ترتيب الوجود الذي لا تتكشف حقيقته إلا بنور الحق، أي لا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم. وإن كل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب حق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث[22]. في حين لا تعني الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) بالمقتول في المعركة، إذ للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد[23].

إن هذه الأمثلة وكثير غيرها تكشف عن مساعي الغزالي صياغة الوحدة المتصوفة والمعقولة للظاهر والباطن. ففي الوقت الذي يدرجها من حيث مضامينها في اطار نظراته الوجودية والمعرفية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، فإنه يحافظ بالقدر نفسه على طابعها التاريخي الملموس. وفي الوقت الذي حافظ على نزوعها الشرعي المنقول، ألبسها لباس المعقول من خلال إضفاء الطابع العقلاني والأخلاقي عليها. مما كان يعني أيضا فسحه المجال أمام الإمكانية الدائمة لتحرير الباطن من القداسة المفتعلة للوعي التاريخي. وبهذا يكون قد أنزل "ضرورة" الوحي الإلهي إلى عالم الحرية الصوفية، باعتبارها الميدان الأخلاقي المتسامي لوحدة الحق. 

*** 

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص59.

[2] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص72.

[3] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص75.

[4] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص91.

[5] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص101.

[6] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص101-102.

[7] الطوسي: اللمع في التصوف، ص431

[8] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص39.

[9] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص39.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص103.

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص285.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص23.

[13] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص399-400.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص64.

[15] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص67.

[16] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص88.

[17] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص91.

[18] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص102.

[19] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص103.

[20] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص247.

[21] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص248.

[22] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص255.

[23] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص309.

 

في المثقف اليوم