أقلام حرة

الأدمغة الملوثة!!

صادق السامرائيتلوّث: تلطّخ، توسّخ، تشوّه.

التلوث الدماغي مرض فتاك ينتشر بسرعة مثل الحصبة والجدري والطاعون،

وفيروسات هذا المرض تشبه فيروسات الأنفلونزا، التي تخترق حواجز الخلايا والنويّات، وتطلق جيناتها نسخا جديدة ذات تأثيرات معدية ، مما يدفعنا إلى إكتشاف لقاح جديد كل عام، يقينا من أضرارها الفادحة.

ولا ندري كم من اللقاحات الوقائية من التلوث الدماغي علينا أن نكتشف يوميا، في هذا المعترك الإلتهابي المعدي الفتاك.

ولا ندري كم من الأقنعة الواقية علينا أن نرتدي في اليوم الواحد، لكي نمنع الأفكار السامة من الوصول إلى تلافيف الأدمغة، والإستحواذ على تفاعلات العُصيبات الدماغية وتواصلها فيما بينها.

إنه لأمر عسير حقا!!

فملوثات الأدمغة متوفرة في كل مكان، ومتجددة على مدار اللحظات، وهي تهب كزوابع وعواصف، وتأتي كرعود أو جحافل إنقضاض فيروسي لا يبقي أحدا من دون إصابة.

أو ربما تكون مروعة، كأنها إنفجار نووي فكري وثقافي يهاجم المدن، كما هاجمت القنبلة النووية ناكزاكي وهروشيما في اليابان. 

الملوثات الدماغية فتاكة وقتالة للبشر بالجملة!!

إنها أقوى من أسلحة التدمير الشامل التي تعبت مسامعنا منها، إنها أسلحة التضليل الشامل المرعبة،  فهي أفكار  فيها كل ما يسبب التفرقة والشقاق والنفور والإحتراب ما بين أبناء النوع الواحد فوق الأرض الواحدة أو في البيت الواحد.

وهي كل مفردات الخراب والقتل والدمار وتناقضات الفعل والمقال، وضاغطات النفوس تحت أهوال الوعيد والخوف والهلاك.

الملوثات الدماغية، دينية وسياسية وإجتماعية وعدوانية تأتي إليك عبر كل القنوات المتاحة للإتصال البشري، وإمتلاك الآراء وصياغتها وفقا لإرادة جرثومة التلوث وفيروس الدمار والإنتهاء والإحتراق.

وعندما تتلوث الأدمغة البشرية، يصعب تطهيرها لأنها ذات قدرة على التشكل وفقا لإرادة الفيروس الفاعل فيها.

والواضح والمعروف أن البشر يمكن أن يشكل دماغ البشر الآخر ويستعبده، ويحوله إلى أداة مطواعة لتحقيق ما يريده منه.

أي أن البشر يمتلك دماغ البشر الآخر وفقا لمعطيات الزمن المعاصر، وهذا الإمتلاك ليس كأي إمتلاك، إنه يعني أن البشر قد أضاف إلى رصيده طاقة أخرى قابلة للتنامي، وتحقيق إرادة المالك البشري بواسطة المملوك البشري، الذي تم مصادرة دماغه وإمتلاك إرادته وتشكيل إتجاهاته ومواقفه وآراءه  وتصوراته، وتحويله إلى أداة ضد نفسه وكل قيمه وموروثاته الحضارية والإجتماعية والدينية.

ووفقا لقدرات ونوع التلوث يمكن تسخير الأدمغة الملوثة للقيام بما لا يخطر على بال من الأفعال والمهمات.

فمن يلوث مَن؟

وكيف تنتقل عدوى التلوث الدماغي بين البشر؟

وكيف يصاب البشر بالطاعون الدماغي؟

وكيف يلتهب الدماغ وتنتقل إليه عدوى أنفلونزا الأفكار المقيتة؟

إن التلوث بحاجة إلى وَسط ملوّث يؤهل عُصيبات الأدمغة لإستقبال كل ملوِثٍ يراد لها أن تهضمه، وتتمثله وتحقق إرادته من خلال نشاطاتها الدماغية، التي ستؤثر في السلوك العام لصاحب الدماغ وبكل إستجاباته البدنية.

ولكل ملوث دماغي أجواء وظروف موضوعية وذاتية يتم توفيرها، لكي تتحقق الإصابة به والسقوط في حبائله والإنصياع لما يريد ويقرر.

ولا بد من توفير الأجواء الإنفعالية عالية الشدة لتحقيق أكبر إصابة جرثومية فتاكة،  وهكذا نجد أن الظروف والأحداث المشحونة بالقوة الإنفعالية تتبدل وفقا لنوع الملوث الذي يراد إنتشاره. 

ترى كيف يبعد البشر الملوثات الدماغية ويتخلص من أمراض الاستعباد بها وتشكيل الرؤى والتصورات والفتك بالذات والموضوع البشري القائم؟

إن المعركة بين البيئة النفسية والإجتماعية والعقائدية والإقتصادية والإنسانية، وبين المنغصات المختلفة والشاملة لحالة الحياة في إحتدام وعلى مر الأزمان والعصور، وأن الملايين من البشر سقط في أتون نيرانها التي ما هدأت أبدا.

فهناك على الدوام معارك طاحنة تدور ما بين ملوثات الأدمغة الساعية إلى إسترقاقها والسيطرة على إنتاجها المعنوي والمادي.

والبشر عموما لم يتخلص من العبودية التي أخذت أشكالا أخرى معقدة وغير مرئية بوضوح، لكنها في حقيقتها قائمة بين البشر.

وقد لعبت الملوثات الدماغية الدور البديل والأرخص لتحقيقها وإدامة الحصول على أحسن الفوائد منها،  وبسبب هذه الملوثات تخندق البشر في عقائد ومذاهب وتحزبات، وبنى متاريس كونكريتية سميكة من أجل منع تسرب الملوثات إليه، لكن التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات جعلت أمر منع دخول الملوثات من أصعب المهمات التي على البشر أن يواجهها.

وبسبب ذلك فأن عواصف وأعاصير التلوث قد هبت على كل الأدمغة وإعتملت بها، وصنّعتها وفقا لمنهجها وأهدافها وطموحاتها، فصار للهدف قوة ذاتية لتحقيقه،  بمعنى أنك عندما تريد الحصول على شيئ ما، لا تحتاج إلى أن تسعى إليه بكل ما عندك من طاقات، بل من الممكن أن تسخر مفردات الهدف المطلوب لكي تنصاع لإرادتك، وتسلم نفسها لك من غير جهد أو عناء من قبلك.

فما عليك إلا أن تطلق فيروسات التلوث المطلوب الُمصنّعة لخدمة ما تريد بطاقة وقوة ما تريد، نحو هدفك، فأنه يأتي إليك عبدا ذليلا مجللا بجراحه التي تسبب له بها التلوث الدماغي وأسقطه فريسة بين يديك.

وهكذا فأن الوجود البشري لأية مجموعة أصبح غير محصن، ويعتمد على قدرة الراغب فيها بتوليد ونشر الملوثات الدماغية التي تخدم أهدافه وتطلعاته.

وكلما كانت المجموعة البشرية في حالة جهل وقلة معرفة وإدراك، كلما سهل تلويثها وإمتلاكها ووضعها في زنازين الإتلاف البشري.

والمجموعات التي تعرف، يكون عندها قدر ما من المقاومة والقابلية على مجابهة أي فيروس يسعى إلى تلويثها، لأنها صنعت موانعها المنطقية وبديهياتها المفيدة لصيرورتها وديمومتها الأرضية.

ووفقا لهذا، فأن المعرفة تكون قوة مانعة، والجهل قوة تدعو إلى أن ينتهي صاحبها ضحية للملوثات الدماغية أينما وجدت.

وقد أصاب التلوث الدماغي أدمغة كثيرة فتحولت إلى طاقات هدم ودمار لنفسها ومجتمعها ولدينها ومذهبها وكل ما يمت بصلة إليها. 

أي أنها قد تحولت بسبب التلوث المتواصل إلى قدرات ذاتية معادية للوطن والمجتمع، وهي تحقق ذلك يملئ إرادتها، وإندفاعها دون القدرة على الخروج من مصيدة التلوث والإتلاف الذاتي والموضوعي.

فاحترزوا من الملوثات يا أولي الألباب إن كنتم تتبصرون؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم