أقلام حرة

زمن القيم الساقطة

مجدي ابراهيمأنْ يخلو زماننا أو يكاد من الفضائل الكريمة، هو نفس المعني الذي يفقد فيه المرء آدميته، فيعيش حيواناً أو أشبه بالحيوان - شاعراً أو غير شاعر-  بحيوانيته .. لا فرق! فلا يوصف الزمن الذي يعيش فيه - من أجل هذا-  إلا بالسقوط والتدنِّي والتباعد عن القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة، وهو في الأصل تباعد عن قيم الوجود الروحي، وتدنِ في ضروب الحياة المستعبدة لأهواء النفس وأهواء الآخرين، وسقوط بالجملة فضلاً عن التفصيل، لقيم الضمير في حياة الأفراد والجماعات سواء بسواء.

وفي الحق؛ ما وجدت الأديان والعقائد عبر تاريخ الحضارات إلا لتشدَّ انتباه الإنسان نحو آفاق السماء، فينظر نظرة جليلة ليدرك أن هناك خالقاً يحاسبه على ما قدَّم من أسباب الخراب والتدمير، ويقسو عليه بالشدة والترهيب لينزجر حين يراه منصرفاً عن مراعاة الضمير. وما انكفأ الإنسان انكفاء شراهة على المادة وطفاسة على شئون الماديات إلا همَّت به ملمات -  من حيث لا يحتسب -  تذكره بالقوة العليا وتبعث في نفسه أسباب التغيير.

حقيقةً نحن في زمن لا يشهد بتقدم الروح على المادة ولا يقوم دليلاً على أن الوجود الروحي للإنسان هو الأبقى والأخلد من الوجود المادي، وإنما العكس هو الصحيح؛ فلم تعد للضمير قيمة تذكر الإنسان بأهوال السعي الرزيل يوم يقوم الحساب.

والذين يراعون حرمة الضمير في هذا المجتمع المخبول أقل من القليل؛ فمن شأن هذا المجتمع أن يفرض المساواة بين الخبيث والطيّب، والصحيح والفاسد، والصالح والطالح، والعابث والملتزم، والذي يقضي حياته في العمل الشريف، والذي يقضي زمانه في أعمال الخسَّة والدناءة وسفاهة الأخلاق. أي نعم! نحن في زمن يفتري أشد الافتراء على عرش الضمير اليقظان، ويتهجَّم على الحياة الروحية والأخلاقية ألعن تهجم، ويكاد يقتلع أصول المبادئ والتقاليد النبيلة من جذورها ليصح له الاستمرار على سُنّة التحلل الدائم وعدم الاكتراث لأية قيمة علوية باقية.

زمنُ يقلب الموازين المعتدلة؛ فإذا أعلاها في ميزان التقدير أسفلها، وإذا أدناها قيمة أعلاها وجوداً وتقديراً، ثم تسوُد فيه آفات النفوس واعوجاج العقائد والأهواء، حتى لم تعد للإنسان قيمة ولا للنخوة وجوداً من أصل ثابت تستقر عليه مطامح الكرامة الحقة.

زمنُ انقلبت فيه المسميات واهتزَّت المعايير الراسخة إنْ لم تكن بليت ضمن ما بلى في هذا الزمان المهين؛ فسمى طيبة القلب ضعفاً وفتوراً، والمروءة نفاقاً ورياءً، والكذب والبهتان ذكاءً أو دهاءً، والإخلاص في العمل الخالد بطالة وتعطيلاً، وسلامة الذوق وطهارة الحسّ سذاجة وبلادة، ورياضة النفس على قمع الشهوات جبناً وخوراً، والمغانم والمكاسب غير المشروعة "تفتيحاً للمخ" وجهداً من الإنسان مبذولاً في مساعي الحياة !

لقد انقطعت الصلة تماماً في هذا الزمن أو كادت بين الحاضر والماضي، أو بين الأمس واليوم؛ فإذا الأخلاق التي تُرسِل الأشعة الكريمة على آفاق النفوس مجزوزة مقطوعة لا صلة توصلها بأبناء الجيل عبر قنوات مفتوحة تربط تواصل المعنى من الأصيل إلى المعاصر، فليس هناك عقل واعي يستقبل من الماضي عبرة الحياة، ولا ضمير نابه يفهم مقاصد الفضيلة ليسترشد بأخلاق الفضلاء، لكنما العقل الواعي في عرف هذا الزمن هوان يدع الماضي كله وما حواه، ولا ينظر إذا هو نظر إلى شيء مما يحتويه، ولو كان هذا المحتوى قيماً تضرب في الحيوية لتصيب المعاني الخالصة من أقرب طريق، فهو ظلامنا، وهو تخلفنا، وهو انحطاط التقدُّم فينا، وهو تأخرنا في الأخذ بأسباب الحضارة المادية والمظاهر الدنيوية بأوفى نصيب.

وعليه؛ فممَّا لابد منه أن نضرب بالماضي عرض الحوائط أجمعين، بكل ما في الماضي من شئون التدين وشئون الأخلاق وشئون الروح وشئون الضمير، وضرب هذا شأنه، وهجر للماضي هذا معوله الهدّام لا تنتظر منه أن يقدر تراث أجداده ولا يحفظ على الحقيقة فضلاً عن المجاز ذاكرة أمته ويمضي في ضروب الحياة على غير هدى من قرار أمين يلوذ إليه، وبغير ذاكرة يستضيء بوعيها. وإنيِّ لأجزم جزم الواثق المطمئن إلى قيمه الروحيّة بأن الذين ينقادون وراء تلك الدعوات الهدامة، ناهيك عن الذين ينادون بها منذ قرون عديدة، هم في الأصل لا يعرفون شيئاً عن ذاكرتهم العربية، ولا يستطيعون أن يقرؤوا حرفاً واحداً من تراث الأجداد ناهيك عن تنقيته وتجديده واستخراج الدلالة منه والقيمة، ولا يعرفون كيف كان يفكر أجدادهم وماذا عَسَاها كانت تكون قيمهم الفكرية والروحيّة؟ إن دعواتهم الموبوءة هذه إنْ هى إلا تقليد للغرب كتقليد القرود، يتوارثونها جيلاً وراء جيل لا لشيء إلا ليهدموا تراثاً بناه الأجداد والآباء هو في الأصل تعبيراً عن هُويَّة هذه الأمة العربية والإسلامية، وهو بلا ريب ذاكرتها الحية المحفوظة في تراثها.

فهل يمكن لأمة أن تعيش بغير ذاكرة، وهل تقوم لها قائمة بين الأمم وهى بغير هُويَّة أو كيان؟

ولم تكن الحياة الروحيّة في الإسلام إلا نفحة مباركة من نفحات الماضي تهبُّ كل حين على طلابها المعتدلين الذين يعيشون زمانهم الحاضر (قيماً من التراث) بما يتفهمونه من أخلاق الماضي وقيمه السارية دوماً في أصلاب الحاضر وصلاحيتها للبقاء والدوام.

بادي الرأي عندي أننا لا نفهم أخلاق العصر الحديث ولا نصلح من طغيانها مع كل تحديث؛ إنْ لم يكن الفهم المناسب لها يتضمن "ثورة" كاسحة عارمة في وجه من يقف ضد صفاء الروح وضد نقاء الوجدان. ومن المؤسف حقاً إننا لا نجد من يدافع عن هذا الوجود المقتول يحييه من جديد ولو بأدنى عناية ممكنة ..!

وقديماً تحدث الغزالي -  طيَّب الله ثراه -  في كتابه "الإحياء" عن ربع من الكتاب سماه ربع "المنجيات"، هو الخير كله في طبيعة الإنسان، مَنْ تمسك به نجا وفاز، ومَنْ تركه هلك وخسر. ومنجيات الإحياء عبارة عن مفاوز يقطعها المرء بعد مروره بالمهلكات، فالذي يعرف الخير يتوقَّى الشر، والذي يعرف الفضيلة يتجنب الرذيلة، والذي يتمسك بالمنجيات يبتعد عن المهلكات وهكذا، لكن المعرفة وحدها لا تكفي فيلزمها من أجل ذلك التطبيق فقد تعرف الخير لكنك لا تأتيه وقد تعرف الرزيلة غير أنك تواقعها.

المعرفة هنا مشروطة بالمعاملة ومضبوطة بقانون التسليك، وكما تضمَّن إحياء الغزالي ربع المنجيات الذي جعله لمعرفة الخير لإتيانه فقد كان تضمن أيضاً ربع "المهلكات" لمعرفة الشر لتوقيه.

وحديث الغزالي عن "المهلكات" ما أطيبه! إنما هو وصف لأوضار المجتمع في الزمن الذي عاش فيه الغزالي، والأخلاق تتغير بتغير الإنسان وتطوره واكتشافاته للشرور الحديثة والآثام الجديدة، فهل نحن -  من بعدٌ -  في حاجة ماسّة إلى غزالي جديد يصفُ لنا أوضار مجتمعنا في زمن غير زمن الغزالي القديم؟

عندي أن هذه المهلكات التي كانت على عهد الغزالي واصفاً لها ومدققاً للناظرين فيها ما هى إلا صورة ضئيلة تصف أوضار المجتمع المعاصر، وضلال من يقدِم عليها، وهم كثيرون في هذا العصر الحديث، وفي هذا الزمن الجديد : عصر الغفلة وزمن البهتان.

فآفة المراء والجدل؛ أساسُ من أمتن الأسس التي تقوم عليها عناصر القوة والنبوغ في هذا الزمن المخبول! وآفة اللسان؛ من المزايا الفريدة التي يتمسك بها الناجون من شرور الضعف والفسولة في قاعات الدرس ومحاريب الجامعات والمنتديات. ولا تقوم الشخصية الاجتماعية ناجحة ناهضة إلا بقيام هذه الآفة في أعلى طبقات الناس.

والنهي عن السخرية والاستهزاء، من المحاسن التي تشرح الصدور عند الظرفاء والأنذال والمتندرين!

وخطر المزاح، من أدق دقائق الترفيه عن نفوس العجزة، وإزجاء الفراغ بين طلاب اللهو من الفارغين والعاطلين الذين يقضون الوقت ترفاً على المقاهي وفي النوادي، ويضيقون ذرعاً بشرف البقاء في منازلهم رعاية لأبنائهم أو ستراً لأنفسهم عن نقائص الأعمال والأفعال، ومع ذلك فهم أكثر خلق الله لغواً وفضولاً وتطاولاً على عباد الله.

وشناعة الكذب، من الدوافع الكبرى التي يحرص عليها كل إنسان يسعي إلى تحقيق مطالبه وأغراضه بحق وبغير حق ولو نافق ودارى وعانق البهتان!

ومآثم الاغتياب، من الفضائل الكريمة الباقية التي يتندر بها الفسَّاق في مواخير الفساد ومواطن الانحراف قضاءً للبَانات الهوى في هذا المجتمع المقلوب!

ورذائل المرائيين، هى من أخلاق القوة عند المتحذلقين والسفلة من أهل اللغو والفضول ونهش الأعراض. وقبح النميمة والسعاية، من أفضل المصادر التي يتشبث بها الانتهازيون والوصوليون في مجتمعنا السخيف!

وما تخلف المجتمع وتبدَّلت معاييره إلا لوجود أناس تؤمن باللسان دون القلب، وتردد ترديد الحيوان الأعجم ما ليس في جوف الفؤاد، فلا صدق ولا وفاء ولا إخلاص ولا شعور قط بالتبعة، الأمر الذي يقتضي أن تسوُد " الوصولية"، ويتسلق البعض على أكتاف البعض الآخر، ويتفشى الحرص الشديد على المغانم المادية مع نفي الاعتبار مطلقاً لإقامة عالم للروح والأخلاق أو عالم آخر ليوم الدين.

ويندر أن ترى رجلاً يعاني في حياته إلا كان شريفاً موصوماً بوصمة الالتزام، يعيش حياته، رغم من حوله، عيشة الشرف والكرم والإباء، ويضع أنفه إزاء كل خسة ودناءة وتآمر في أعلى عنان السماء، ولكنّه يقاسي مرارة الحياة ولا يسلم من وجود "أوباش" يأكلون لحمه كلما غدا أو راح.

أين هى قيم الزمن الحديث من قيم كانت في الأزمنة الماضية تكلم فيها الغزالي وحذى حذوه كرام الكاتبين؟! ألا ما أكثر شيوع الفساد في زمن لا يلقي عناية لمصدر الإنسانية فيه ومبعث القيمة التي وضعها الخالق جلا وعلا بين ضلوعه وخوافيه : قيمة "الضمير" التي غفت عنها القلوب والعقول وشرعت تدبر ما يحلو لها من مفاتن ومكائد وصبوات.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم