أقلام حرة

الكلمة المناسبة

عاطف الدرابسةقلتُ لها :

أبذلُ جهداً كبيراً وأنا أبحثُ عن الكلمةِ المناسبةِ، لأنِّي لا أُريدُ كلماتٍ حادَّةً كسكينِ راعٍ تجرحُ، ولا أُريدُ كلماتٍ ساطعةً كالشَّمسِ تفضحُ، فكلُّ ما أُريدهُ هو الكلمةَ المناسبةَ .

ما زلتُ أبذلُ جهوداً جبَّارةً لأتعلَّمَ البكاءَ، أو أتعلَّمَ فنَّ العطفِ، أو أن أُجيدَ لغةَ الغزلِ أو المدحِ، غير أنِّي أفشلُ فشلاً ما بعدَهُ فشلٌ .

كلَّما حاولتُ أن أُعلِنَ حبي لها، تُصابُ حروفي بالشَّللِ، وكلَّما فتَّشتُ عن عبارةِ غزلٍ، أجدُني أسألُها عن الغداءِ أو العشاءِ، أو أسألُها كيف تطهو السَّمكَ، كم أنا غريبُ الحالاتِ والأطوارِ، وكلَّما اقتربتُ منها لألمسَ يديها، أو أهمسَ في أُذنيها، أو أُداعبَ شعرَها، أجدُني أتحدَّثُ عن الشاورما البلدي أو البطيخِ .

وحين أتحدَّثُ عن البلدِ، وعن أهلِ البلدِ، وعن الذي يجري بالبلدِ، تخرجُ إليَّ من بين الكلماتِ في زينتِها، عطرُها يغزو المكانَ، بجيشٍ كأنَّه الجيوشُ الصَّليبيَّةُ، ثمَّ يظهرُ لي وجهُها، من بين صوري وأفكاري، كأنَّه القمرُ في ليالي تشرين، يشقُّ الحُجُبَ والغيومَ، ليبتسمَ لي، ويُلقي عليَّ نظرةَ حبٍّ ووداعٍ، فأشعرُ بالدفءِ يسري في مفاصلي، وأشعرُ بحمَّى تجعلني أرتجفُ كورقةٍ أمامَ مِروحةٍ كهربائيَّةٍ، في صيفٍ غارقٍ في الفسادِ كبلادي .

لماذا حين أكتبُ عن الوطنِ، تطلعُ لي كمطلعِ الفجرِ في قريتي، فأرى في وجهها السَّهولَ ضاحكةً، وأرى المياة تُغازلُ الوديانَ، وألمحُ سنابلَ القمحِ ملكاتِ جمالٍ، تتمايلُ على ضفافِ نهرِ الضَّادِ .

لماذا حين أتحدَّثُ عن الفسادِ في وطني، أو عن البطالةِ في وطني، أو عن نتائجِ الثانويةِ العامةِ، أو تراجعِ مؤشراتِ التَّنميةِ، تخرجُ لي كالثَّلجِ المتساقطِ من أفواهِ الأطفالِ، فترتدي الأرضُ ثوبَ الطُّهرِ والعفافِ، وتبدو كعذراءَ ما مسَّها بشرٌ، أو كسماءٍ ما غزاها غيمٌ، أو كريحٍ ما حملت إليَّ إلا النَّدى، في كؤوسٍ كأنَّه العسلُ .

منذ أوَّلِ خطأٍ إملائيٍّ، وأنا أكتبُ عن الوطنِ، كانت تخرجُ إليَّ، وتهمسُ في أُذني : ليست المشكلةُ أن نُخطئَ في الإملاءِ يا حبيبي، المشكلةُ أن نُخطئَ في الأرقامِ، فتتضخَّمُ يا حبيبي الأرقامُ، فيصيرُ المليارُ كالألفِ، ويصيرُ معدَّلُ الخمسِ والتسعينِ كالخمسينِ .

يا حبيبي، مهما أخطأتَ في الإملاءِ، وأخطأتَ في الرَّفعِ، والجرِّ، والنَّصبِ، فلن يضرَّكَ شيءٌ، المهمُّ أن لا نُخطِئَ في الأرقامِ، فتتضخَّمُ الأرقامُ، وحينما تتضخَّمُ في البلادِ الأرقامْ، فعلى البلدِ يا حبيبي السَّلامْ .

 

د. عاطف الدرابسة

 

في المثقف اليوم