أقلام حرة

حرب صدام / خميني.. انتصار أو اندحار

علي ثوينيكما عهدنا في خلاف العراقيين وتشفيهم ببعضهم بحالة من جلد الذات المؤرق، هاهم يترحمون على صدام وينتهزون المناسبات التي يقف وراءها رهط من الكذابين والمزورين للتأريخ. فهم يعدون حرب صدام /خميني الأطول بالقرن العشرين أنتصار كبير، متناسين تداعياتنا الكارثية. فقد أنقرض على اثرها مواليد كاملة منها مثلا مواليدي 1957-58، ونفق جيل كامل وترمل وتيتم نصف العراقيين، بعدما ضحى صدام بهم على مذبح الدجل المستشري بالأمس واليوم. أدعوا أنه صراع بين عرب وفرس، وإحياء لقادسية ورد إعتبار عنصري/ طائفي، في حرب مضى عليها أربعة عقود و لم نعي أسبابها أو حتى نتائجها، غير كم التضحيات والهدم، والأهم لم يكن يكافئها ضياع العراق إلى عقود وربما قرون بعدها. إذ أتسائل بحرقة: ماذا استفدنا من حرب قتلت مشاريع بشرية واعدة وأجيال صاعدة، وبددت ثراء أسطوري وفتتت أخلاق مجتمع ينمو، ونثرته هباء في ريح عاصف، بين مهجرين وقتلى .

لم أعش تلك الأجواء المفعمة بالحزن والبؤس والموت وزرافات الجنائز التي حولت مقبرة وادي السلام إلى مدينة أكبر من النجف نفسها. أتذكر بألم المرحوم أخي الذي ضحى به صدام وهو بعمر 20 عام، كان يحلم ويرسل رسائله المبهرة الملهمة، وأنا في أقاصي المنافي، كنت أظن أنه سيكون شخصيه واعدة بالوعي والشعر والفكر. . لم يخبروني بغيابه إلا بعد ثلاث سنوات، حيث صعدت روحه إلى بارئها، أسبوعين قبل موعد نهاية الحرب المؤلم 8-8-88. ونقل الأهل قصته مع الموت فقد جاءته قذيفة عراقية مزقت أحشائه، حيث كان هو وأربعه(مشبوهين بمعايير البعثيين)، فبقى منهم واحد كتب الله له النجاة بأعجوبة، وقص لهم أنهم كانوا معارضين للبعثيين وصدام وتحت مراقبة الفرقة الحزبية في وحدتهم العسكرية، فجمعوهم ذات يوم عنوة وبعثوهم بمهمة للكشف، وصوبوا عليهم وابل قنابل عراقية من ظهرهم، فجاء قتلهم من سلطة لاتهتم بأرواح مواطنيها وليس من مصدر عدو. . مئات الألاف قتلوا من الخلف من فرق مختصة تعدم من تتهمه بالتراجع و(الجبن). . كثير قتلهم ضباط مواصلة كانوا مؤمنين أن الحرب فرصتهم الذهبية للإثراء وبناء القصور والبحبوحة على حساب أشلاء القتلى، أرادوا أن تطول أكثر. وقد حدث أن بعضهم بكى بحرقة حينما وضعت الحرب أوزارها وأعلن عن توقفها. . قصص وروايات لجنود هربوا وأعدموهم بعد أن القوا القبض عليهم في بيوتهم، و أن أحدهم أمسك بشدة بباب دارهم ولم يقبل الذهاب للإعدام حتى أنبعج حديد الباب من قوة شده وهو يتشبث بالحياة وبمأواه. أو أحدهم قتل إبنه لأسباب مجهوله وذهب لصدام ليعلن أنه قتله بسبب تخلفه عن الإلتحاق بجبهة القتال، فكرمه صدام وأشتهر في الإعلام البعثي بنخوته ووطنيته الزائفة. . وقصص وقصص من تلك المهازل. .

حرب صدام / خميني كانت مسيرة بعناية من الغرب، رغم أن بعضهم يتهم أهل الخليج بتمويلها وأن الكويت أصبحت المكان الممون للعراق بالسلاح والمال، وحسبي أن الكويت لم ولن تكن تتمنى للعراق الخير خلال تأريخ إقتطاعها من خاصرته . وتناسينا ببلاهة دورملك حسين في الأردن أو حسني مبارك في مصر اللذان ساندا صدام، ورهط من الساسة اللاعقين والمستفيدين، إذ أتذكر تصريح الرئيس الفرنسي ميتران حينما شدد على أن ثمة عداوه قديمه بين الفرس والعرب وهناك قادسية سابقة تتجدد اليوم، ليجعل من موقف فرنسا المنحاز، سبب ومبرر للسند لكن حقيقته هو الإثراء من بيع الأسلحة (نتذكر صواريخ سوبر أتيندر وأكزوسيت) والأهم يحطموا العراق كما حدث خلال بيعهم لمخططات مفاعل تموز لأسرائيل، وإسنادهم للبعثيين وتكريس سلطة ربيبهم صدام، ثم لينقلبوا ضده في حرب الكويت 1991. لكن الغريب أن أسياد ميتران وماخور الماسونية في باريس الذي أوصل خميني بطائرة (إير فرانس) لطهران، أنقلب علينا من "تأييد" للعرب لتسليمنا للفرس اليوم، حتى أصبح العراق تابع لسلطة الملالي . لم أجد بعد تفسير لتلك اللعبة، تحول هؤلاء الشياطين البشرية من أقصى العداء لأقصاه ليقتصوا منا ويستنزفونا، ونحن ندفع الثمن دماء ودموع كل مرة.

أعلنت وأنا إبن 23 عام وطالب مغترب، قليل الإطلاع وشحيح التجربة لكني منتمي لأهلي ووطني، أعلنت رفضي المطلق للحرب، وكنت أصرح بالأمر علانية وسط إمتعاض وخوف الجميع، ويشهد على ذلك من مكث من زملاء الدراسة في رومانيا أتذكر منهم زميل من اصول إيرانية، كان يتقد حماسا لتأديب (العجم)!، وكان بعثي أكثر من عفلق، لتعرفوا مديات الكذب والدجل والدونية والنفاق التي مارسها العراقيون وشجع على شيوعها البعثيون. وحري الإشارة هنا إلى أن الأكراد وذوي الأصول الإيرانية كانوا الأكثر حماسا وإنقيادا وإنتماءا لحزب البعث.

أتذكر أني دخلت في نقاش مع طلاب زملاء وأصدقاء حينها، و بعد سجال محتدم، أنفرد بي زميل عراقي أبوه كردي وأمه موصليه أسمه سامان نشأت درس الطب في بوخارست، لا أعرف أين مصيره اليوم، أخبرني بسرية لكي لايسمعنا الوشاة وكتابي التقارير الكيدية بأنه متفق معي ويشد على رأيي، لكنه لايستطيع التصريح أو التلميح برفضه للحرب كون لديه منحة من وزارة الدفاع، لكنه كان أول الهاربين بعد إنهاء دراسته، ولم يعد لصدام والعراق.

اليوم وبعد 31 عام على مهزلة نهاية تلك الحرب، وثمة من يعدها إنتصار، بما يوحي ببؤس الفكر والوعي لدينا، فقد طفق الناس من جراء تراكم الإنكسارات إلى فبركة الإنتصارات بغرض التعويض عن خيباتنا وفشلنا في تأسيس مجتمع حصين لايخترق ولا تستميله الإغراءات المادية ولا تفرقه التحزبات والتشرذمات، مجتمع سوي يرتقي للعقل والحس ويمارس الفضيلة ويحارب الرذيلة كما هو الحال اليوم بين أعلى مستوى حتى أدناه وفي كل مجالات المجتمع والدولة. . ونختم التذكير بأن البعثيين وصدام خسروا كل الحروب الخارجية، لكنهم أنتصروا على الشعب الأعزل إنتصار جعل صدام يصبح بطل في أعين الأعراب والأغراب والجهلاء. وحسبي أن من يكره العراقيين أحب صدام دون طائل، كونه حقق له مالم يتمكن من تحقيقه، وجعله يتشفى بهم. . . وما أكثرهم. لقد طفق نفر يترحم على سنين صدام والبعثيين، ويظهر مناقب لم تكن وقد عشناها وشهدنا عليها ومازلنا وسنبقى ندفع ثمن عبثيتها أجيال بعد أجيال. . أتساءل في الختام إذا كان ثمنه مليون ونيف من القتلى(الشهداء) ثمن تلك الحرب فإنه بأس الإنتصار بل إندحار . واشبهه بإنتصار سلطة الإسلامويين والأكراد اليوم على داعش في الموصل فإنه بحسابات الربح والخسارة فإنه إندحار وفضيحة لايراد الإعتراف بها.

 

د. علي ثويني

 

في المثقف اليوم