أقلام حرة

الكينونة المكانية والسلوك!!

صادق السامرائييبدو أن التفاعل ما بين المخلوق الحي والمكان الذي هو فيه، يمتلك ديناميكيات وآليات قد نراها ونعرفها، وقد تخفى علينا تماما لكنها تسري وتؤثر وتفرض قوانينها ومعطياتها.

فالمخلوق المولود في مكان ما لابد أن يختلف عن المخلوق المولود في مكان آخر، فظروف المكان تتفاعل وتساهم في صناعة حالة الحي الشاملة.

فالمكان المعيّن يمتلك عناصر ومؤثرات تختلف عن غيره، وهذا يؤسس لإستجابات مختلفة وخاصة بالمكان، ووفقا لهذه الإستجابات، فأن المخلوق الموجود في المكان سيهذّب سلوكه ويوفر عوامل بقائه وديمومته فيه، أي أن المخلوق الناجح البقاء يكتشف قوانين مكانه ويسخرها لصالحه ويبني مجتمعه وفقا لها، فلكل مكان قوانين ودستور ومعادلات لا تقبل الخطأ أو الإضطراب، لأن ذلك يحقق زعزعة في مجتمعات المكان.

ووفقا لهذا فأن المخلوقات عموما، والبشر خصوصا، يكون من نتاج مكانه وتأثيره في كل ما فيه، فالمكان يؤثر بقوانينه وعوامله الطبيعية والبايولوجية والمايكروبية والجغرافية والتأريخية والسياسية والعقائدية بتحقيق إستجابات معينة داخل الأدمغة البشرية، وبتكرار هذه التفاعلات تنمو إرتباطات تؤسس لدوائر عُصبية ذات تفاعلات خاصة ومنسجمة مع متطلبات المكان والقوى الفاعلة فيه بأنواعها.

فالبشر الذي في الشرق يختلف عن البشر الذي في الغرب، بسبب المؤثرات المكانية الفاعلة في الحالتين، وإذا ما وضعنا بشر شرقي في مكان غربي، فأنه سيصاب بالإضطراب والحيرة، ويحتاج إلى وقت لكي تتولد عنده إستجابات وتفاعلات داخلية منسجمة مع المكان الجديد، وهذا الزمن يتناسب مع قدرات ذلك البشر في التفاعل، وإمكانية دماغه على بناء الدوائر العصيبية اللازمة للبقاء الناجح في المكان الجديد، والعكس صحيح أيضا.

فترى المهاجر الشرقي إلى مكان غربي، يمر بمراحل متعددة حتى يتمكن من إنشاء أو إستنهاض قدراته الداخلية لتحقيق الإنسجام المطلوب مع مكانه، لكنه ما أن يعود إلى المكان الأول حتى تراه قد تفاعل وفقا لقوانينه أيضا وبسهولة، لأنه قد إمتلك الأجهزة العصبية اللازمة للتفاعل مع مكانه الأول، والتي لا يمكنها أن تضمر بسهولة.

 وعليه فأن السلوك البشري إبن مكانه  وهو مولود من رحمه ومعبّر عنه تماما، بمعنى أنه يكشف قوانين المكان الذي هو فيه، والتي تساعده على التواصل والبقاء وتحقيق الحياة.

فالفصل ما بين المكان والبشر خطأ حضاري، وإقتراب غير موضوعي من سلوكه.

فالعراقي مثلا، يتصرف بأساليب قد ترعب الذين في أماكن أخرى، لأن المكان الذي هو فيه وعبر مسيرات الأجيال  قد وفر العوامل اللازمة، والجراثيم المطلوبة  للتفاعلات القاسية والمريرة، مما أوجد دوائر عُصيبية قوية في الأدمغة تعززت قوتها بالتكرار الدائم، وهذه الدوائر العٌصيبية ينجم عن إستجاباتها سلوكيات متناسبة مع المنبهات المكانية، وبدورها تساهم في بناء الأجهزة العاطفية والنفسية والفكرية المتفقة معها والمعبرة تماما عنها.

فإبن الجنوب يختلف عن إبن الوسط وكذلك إبن الشمال، حيث أن المكان يرسم هذه اللوحات الثلاث ويساهم في تحقيق التنوع والتعدد الذي نراه متأكدا وممتزجا في العاصمة بغداد، لأن المكان البغداي قد منح قاطنيه حالات أخرى من التفاعل والتواصل، فالمكان البغدادي جامع مانع للتشظي، لأنه يوفر العوامل اللازمة لإستجابات شاملة مشتركة ذات ألوان متنوعة.

وبما أن المكان واحد، فأن المجتمع الناجم عن مؤثراته لا بد أن يكون واحدا، وبناءا على ذلك، فأن محاولات تقسيم بغداد بالأسوار وغيرها من الموانع والمعوقات لا يمكنه أن ينجح أبدا، لأن المكان يفرض سلطته وقوانينه ويحطم القيود والموانع، التي تحاول زعزعة قوانينه وقدراته اللازمة للحفاظ على مخلوقاته الحية وموجوداته الأخرى.

 فالمكان قوة فاعلة ومؤثرة وقادرة على تحقيق إرادتها ولديها الطاقات  الجيولوجية والبايولوجية، والقوانين الخفية السارية اللازمة للتعبير عن ذاتها وطاقاتها وفعلها  وتحقيق إرادة المكان.

ولا يمكن لمخلوق أن ينتصر على مكانه لأنه مشدود إليه بطاقة جذب قوية لا يمكن الإفلات منها، أي أنه أسير مكانه، ولا يمكنه أن يعبّر عن أي شيئ مهما كان نوعه إن لم يكن فيه من عناصر مكانه، ووفقا لقدرات ذلك الحي على فهم وإستيعاب قوانين المكان والتعبير عنها، بذكائه ووعيه وإرادته المنسجمة معها، وأي خلل في التفاعل المتوازن يؤدي إلى مآسي وويلات وخراب ودمار يتأكد في ذات الحي والمكان.

فإذا كتب المخلوق شعرا أو رسم لوحة أو جاء بموسيقى أو قصة ورواية، أو أنشأ نظاما إجتماعيا وسياسيا ومعرفيا، فأنه سيحمل مؤثرات المكان وروحه وقوته وخبرته، وأعظم الإبداعات الإنسانية هي التي تمّكن أصحابها  من إدراك قوانين مكانها، والتعبير عن ذات المكان بقدرات خلاقة وإستلهامات عالية من قلب المكان.

ولهذا فأن تفسير السلوك البشري المعزول عن مكانه يكون غير منصف وقليل الصواب مهما توفرت فيه من آليات المنطق والإقناع.

والمجتمعات القوية  الناجحة، هي التي خبرت قوانين مكانها وإستلهمتها وعبّرت عن طاقاتها من خلالها فكانت وتقدمت.

وفي مجتمعنا، نعاني من أمية مكانية شديدة، فلا نعرف قوانين الأرض، ولا نمتلك ثقافة مكانية ثرية تساهم في مساعدة أبناء المجتمع على إدراك المسارات الصحيحة اللازمة للبقاء والنماء والإرتقاء، مما أدى إلى تفاعلات ضبابية وصراعات سلبية أدت إلى جلب القوى العديدة العارفة بقوانين المكان وطبيعته النفسية والفكرية والعقائدية، وتفاعلت معها بما يخدم مصالحها ويسخر أهل المكان لتحقيق غاياتها.

وما دام الجهل بالمكان هو السائد، فأن أبناء المكان المجهول لا يمكنهم أن يدركوا المعلوم، وإنما كل ما يعبّرون عنه عبارة عن سلوك مضطرب  مشحون بالخوف والقلق والشك والحزن والألم واليأس، لأن المعلوم المكاني معدوم، ولن يتحقق إلا بالتفاعل الواعي مع المكان وإدراك قوانينه وفهمها، والإنسجام  الأخلاقي والفكري والنفسي والروحي الخلاق معها، لكي يتحقق التحرر من وعي الكرسي والإلتزام بوعي المكان.

فاعرف مكانك لتفهم سلوكك وتحقق إرادة بلادك!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم