أقلام حرة

العمل

محمد العباسيوما العمل؟ قد يتساءل شخص في ورطة.. يتساءل عن حل لمشكلته أو قضيته أو وضعه.. لكن، ما هو هذا "العمل" وكيف لمصطلح كهذا أن يكون فيه الحل لمشكلات الناس في الحياة؟ وهل "العمل" مجرد كلمة براقة في معجم اللغات، أم أن العمل واقع وفعل ويمثل نشاط فعلي وطاقة حركية تستوجب أن يكون له مخرجات ونتائج تعود بالنفع العام؟

فهل يمكننا الإستمرار والديمومة بلا عمل؟ هل الحياة كلها ستتعطل إن توقفنا عن العمل؟ فنحن نسمع عن العمل والعمالة والعمال والأعمال والمعامل والإستعمال والعميل، إلى آخر هذه المرادفات لذات أصل الكلمة الدالة على الحركة والإنتاج.. فكل أمم الدنيا تعتمد على عمل العمال في تطورها واستمرارها وكسب مصادر قوّتها الإنتاجية ومجابهة تحديات توفير الحياة الكريمة لها ولأفرادها.. أي أنه بلا العمل المنتج سواء كان صناعياً أو ثقافياً أو غذائياً لن يتمكن أحد من الكسب والعيش والإستمرار في الحياة بشكل عام. أي أن هذا العمل المنتج هو أمر قد لا يختاره الإنسان بمحض إرادته الفردية الخاصة به شخصياً فقط، بل هو ضرورة وحاجة قد يستفيد من مخرجاته كامل أفراد تلك الأمة، وأحياناً قد تتجاوز المنفعة حدوداً أبعد وأكثر شمولية ولمخرجاته تأثيرات إقليمية وعالمية!

فحين يبحث الشخص عن عمل (وظيفة) فهو بالعادة يبحث عن مصدر للرزق ليعتاش منه ويعينه على متطلبات الحياة.. لذا يكون لتوظيف عدد من العمال أو الموظفين في أية مهنة كانت تكاليف تترتب على أرباب العمل في شكل رواتب ومصاريف وفواتير وإلتزامات مكلفة.. لذا قد يلجأ البعض من أرباب العمل للبحث عن سبل شتى لإستغلال من يعملون لديهم شر استغلال من جل خفض التكاليف ورفع الطاقة الإنتاجية لضمان ديمومة الكسب والأرباح على حساب عمالها.. ورغم أن هكذا استغلال يبدو في ظاهره إجحافاً لحقوق العمال، غير أن ديمومة الأرباح تضمن بقاء العمال في وظائفهم ومصدراً مستمراً لنيل الأجور الثابتة.

وفي المقابل، قد يلجأ بعض أصحاب العمل للجوء إلى استقدام العمالة الأجنبية الأرخص تكاليفاً وربما الأكثر إنتاجية مقارنة بالعمالة المحلية.. ويبدو هذا الحل منطقياً من وجهة نظر أرباب العمل، لكنه بالضرورة سيؤدي إلى حرمان أبناء الوطن من فرص العمل والرزق.. وسيحرم الدولة بشكل عام من الإنتفاع من جهود مواطنيها الذين ربما تكفلت بتعليمهم وتدريبهم من جهة، ومن جهة أخرى تخسر الدولة تلك المصادر المالية التي ينفقها المواطن في عجلة الاقتصاد المحلي.. في حين يلجأ العمال الأجانب (بحكم الحاجة والضرورة) إلى تحويل أغلب مداخيلهم إلى عوائلهم في أوطانهم.. لذا نجد أن بعض دول المنطقة تستثمر في دعم العمالة المحلية في القطاع الخاص بدفع مبالغ مالية تضاف لرواتب للموطنين لحثهم على القبول بالعمل في هذا القطاع وعدم التهرب من قبول العمل في القطاع الخاص الذي بطبيعة الحال يفضل العمالة الأقل تكاليفاً.. هكذا حل يكلف ميزانية الدولة مبالغ ما كان يجب أن تتحملها، لكنها تساند أبنائها من حيث المبدأ العام.

لكن، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة في هذا الشأن: هل نحن نعمل من أجل بناء دولنا ومن أجل مصلحتها ومنفعتها وقوتها، أم أننا نعمل فقط من أجل الراتب والعائد المالي في آخر كل شهر؟ هل نحن نعمل من أجل العطاء والنماء والتطور، أم أننا لسنا معنيين بالمخرجات طالما المردود المادي مضمون في آخر المطاف؟ فالملاحظ بين الكثيرين من الشباب في هذا الركن من العالم أننا نتكلم عن الإجازات وسبل التهرب من العمل أكثر بكثير عن الكلام في مدى عطائنا وإنتاجيتنا في العمل! حتى بات شائعاً بين أرباب العمل الفكرة العامة بأن التسرب من العمل وقلة الإنتاجية هما ديدن العمالة المحلية !!

وهنالك جانب آخر لمسألة عدم تقبل الكثير من أبناء الوطن في عصرنا هذا للإنخراط في أعمال كان يرضى بها الأجيال السابقة.. وربما أحد أهم أسباب هذا الوضع يعود لتوفر مجالات الدراسات الجامعية بكل فئاتها ودرجاتها، حيث لم يعد يتقبل الجامعيين العمل في مهن باتوا يرونها دونية.. فالخريج الجامعي (بطبيعة الحال) بات يطمع في وظائف أرفع شأناً وأعلى مردوداً، وهكذا فرص باتت أقل توفراً كنتيحة حتمية لتضاعف أعداد الخريجين الجامعيين في السنوات الأخيرة، حتى بات أغلب الجامعيين عاطلين ومُعَطلين، وباتت أغلب فرص العمل المتوفرة لا تناسبهم ولا ترضيهم.. وهكذا أيضاً تضيع كل تلك السنوات التي قضوها في الدراسة والتحصيل هباءً، وتذهب كل استثماراتهم المادية قسي سبيل نيل الشهادات أدراج الرياح!

صحيح أن إحصائيات الدول باتت تبين إرتفاعاً ملحوظاً ومشرفاً لأعداد الحاصلين على الشهادات الجامعية والتخصصات المتنوعة، غير أن الواقع يعكس هدراً هائلاً لهذه المؤهلات بسبب شح فرص العمل المناسبة. وفي آخر المطاف يبقى جلهم بلا عمل، وإن إضطرتهم الحاجة يرضون بأعمال في غير مجالاتهم الدراسية.. أي لو أن أغلب هؤلاء كانوا رضوا بقبول الفرص المتاحة قبل إضاعة المال والوقت للدراسة الجامعية، لربما تعدلت أوضاعهم خلال تلك السنوات من حيث إكتساب الخبرة والترقي وزيادة الرواتب، بل وحتى من زاوية إحتساب تلك السنوات في ميزانية نظام التقاعد.

فهل نحن نعمل لنحيا، أم نحيا لنعمل؟ سؤال ملحّ على كل واحد منا التوقف أمامه. بالنسبة للعديدين يصبح العمل أساساً لتحقيق ذاتهم ووجودهم، إلا أن طرق النجاح مكلفة وقد تتسبب في خسائر فادحة. وقليلون هم من يحضون بفرص العمل في مجالات مناسبة ومشجعة، ورغم ذلك يتحتم عليهم الإجتهاد والجدية واستثمار الوقت والجهد في المحافظة على حظوظهم مما قد يؤدي إلى ضغوطات نفسية جمة تؤثر على حياتهم الإجتماعية.. لذا لا بد أن يجد هؤلاء التوازن بين العمل والحياة الشخصيّة.. لكن، في آخر المطاف يبقى سؤال مهم: كيف نحيا بلا عمل؟ كيف نتوقع للشباب العاطل أن يبني لنفسه حياة مستقرة، أو يتحمل مسؤليات وتبعات تكوين أسرة، وتوفير السكن الملائم والحياة الكريمة إن لم يضمن مورداً مادياً ثابتاً ومضموناً نهاية كل شهر؟

 

د. محمد العباسي -  أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم