أقلام حرة

شئ عن جريدة (برافدا) الروسيّة

ضياء نافععندما كنت قبل أيام أشتري الصحف الروسية – كما أفعل يوميا – ألقيت نظرة عامة على الصحف الكثيرة جدا المعروضة امامي، ووقع نظري – بالصدفة - على صحيفة (برافدا) الشهيرة، وهي نادرا ما تكون معروضة في الوقت الحاضر بين الصحف الروسية، فطلبت من بائعة الكشك ان تضيف تلك الجريدة الى الصحف التي طلبتها، وذلك لانني أردت ان أطلع عليها متذكرا تلك الايام الخوالي، عندما كنّا نشتريها يوميا بسعر كوبيكين اثنين فقط (الروبل الواحد يساوي 100 كوبيك) ايام الدراسة في الاتحاد السوفيتي في ستينات القرن العشرين، وهكذا بدأت بتقليب صحيفة (برافدا) من جديد وانا ابتسم، بعد أكثر من 50 سنة تقريبا من القراءة اليومية لها آنذاك، حيث كنت افتح رأسا الصفحة الثالثة فيها لأقرأ اخبار العالم باحثا – قبل كل شئ طبعا - عن اسم العراق واحداثه، وغالبا ما كانت تلك الاخبار شحيحة جدا جدا عندئذ ...

عندما مسكت العدد الجديد من جريدة برافدا، تذكرت رأسا صديقي المرحوم أ.د. محمد يونس (استاذ الادب الروسي في جامعة بغداد والباحث والمترجم الكبير)، الذي جاء اليّ مرة وقال لي، انه يمتلك نسخة من العدد رقم (1) من جريدة (برافدا)، الصادر العام 1912، وانه يعتز به جدا، ولكن – واقعيا - لا احد يمكن ان يطلع عليه في مكتبته الخاصة به في بيته، وانه يريد ان يهديه الى مكتبة قسم اللغة الروسية في كلية اللغات، ولكنه يخشى ايضا ان (ينام !) هذا العدد بين طيّات الكتب ورفوفها، وتناقشنا حول الموضوع تفصيلا، واتفقنا ان نؤطّر ذلك العدد التاريخي والفريد بالنسبة للعراق (وليس فقط للعراق) ونعلّقه على جدار المكتبة عند مدخلها، وهذا ما تمّ فعلا . وهكذا اصبح هذا العدد معروفا لجميع اساتذة القسم وطلبته، وكنّا نلفت اليه نظر الوفود الروسية التي غالبا ما كانت تزور قسمنا ونتفاخر به، وكانت تلك الوفود تتعجب من رؤية العدد الاول من هذه الجريدة المشهورة لديهم معلّقا على جدار مكتبة قسمنا في جامعة بغداد، واذكر ان احد اعضاء تلك الوفود قال لي مرة، انه توقع ان يرى (مختلف الاعاجيب في بغداد، اذ انها بلاد الف ليلة وليلة !)، الا انه لم يخطر بباله ابدا رؤية العدد الاول لجريدة (برافدا)، والتي لم يشاهدها في بلده نفسه. لقد احترقت مكتبة قسم اللغة الروسية - مع الاسف الشديد - باكملها العام 2003 عند الاحتلال الامريكي لبغداد، وتحولت الكتب المنهجية لتدريس اللغة الروسية وكذلك المعاجم والقواميس الروسية - العربية و مؤلفات بوشكين وغوغول ودستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وبقية ادباء روسيا العظام الى رماد، بما فيها طبعا ذلك العدد التاريخي الفريد من جريدة (برافدا) ..

كانت صحيفة برافدا في الاتحاد السوفيتي هي الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوفيتي، وكان اسمها على لسان كل شيوعيي العالم طبعا، بما فيهم العرب، بل واني سمعت، ان أحد الشيوعيين في العراق اطلق على ابنته اسم (برافدا)، وهكذا اصبحوا ينادونه - (ابو برافدا !) على الطريقة العراقية، ويقال انه كان فخورا جدا – وطوال حياته - بهذه التسمية .

رافقت جريدة برافدا كل تاريخ الحركة الشيوعية الروسية قبل ثورة اكتوبر 1917، واستمرت بمسيرتها بعد الثورة، واصبحت في الاتحاد السوفيتي سجلّا خالدا لتاريخ تلك الدولة ومسيرتها اليومية بكل احداثها و تفاصيلها، وكانت تمتلك امكانيات مادية واسعة جدا، ووصلت عدد نسخها في السبعينات الى اكثر من عشرة ملايين نسخة يوميا، وكانت توزع صباحا في المدن السوفيتية كافة رغم ان مساحة الدولة السوفيتية كانت تشغل سدس الكرة الارضية كما هو معلوم، بل اننا كنّا نراها يوميا معلّقة في الكثير من المناطق السكنية ومحطات الباصات والشوارع العامة في موسكو . انحسرت اهمية هذه الصحيفة بعد انهيار دولة الاتحاد السوفيتي، ولكنها استمرت بالصدور ناطقة باسم الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية، وبنفس التصميم ونفس الاسلوب الحزبي الصارم جدا، الا انها لم تعد تطبع اكثر من 100 الف نسخة باليوم، وأخذت تصدر ثلاث مرات اسبوعيا ليس الا.

جريدة (برافدا) واحدة من صحف العالم العريقة، وهي تستحق الدراسة من قبل العرب المهتمين بالشأن الروسي في الماضي والحاضر والمستقبل ايضا... 

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم