أقلام حرة

الإبتكار والجنون!!

صادق السامرائي"إنه مجنون، يخترع كل شيئ"

"إمخبّل شتريده يصنع"

سأروي قصتين لا زلت حائرا في آليات تفاعل المجتمع معهما.

الأولى، في طفولتي وصباي، تعودت أن أسمع أن فلان الفلاني مجنون، خِبل، مسودن، ما عنده عقل!!

وهذا الرجل مبدع فعلا إلى حد الجنون، إنه يخترع المحركات وغير ذلك من الآلات، ولأنه يخترع فهو مجنون.

لكن الرجل طيب المعشر والخلق ويعيش في عزلة نسبية عن الناس، وهو رسام بارع، أرقبه وهو يرسم بقلم الرصاص لوحات جميلة.

وكم مرة رسمني، وكنت أحتفظ ببعض الصور التي رسمها لي.

ولا زلت لا أعرف ما هي دواعي تسميته بالمجنون، وما تعاطى علاج جنون في حياته!!

والثانية، كنت مسؤولا عن ردهة الأمراض النفسية والعقلية في مستشفى الكرامة التعليمي وأعاين المرضى في العيادة الخارجية فيها، وذات صباح جاءت سيدة مع ولدها الذي لم يتجاوز العقد الثاني من العمر، ومشكلتها  إنهم يسمونه مجنون حتى صارت تصدق بأنه مجنون، لأنه يخترع ولديه القابلية على إصلاح أي جهاز عاطل في أي مصنع مهما كانت الماكنة معقدة، ويمكنه أن يخترع ما يساهم بمواصلة عملها.

وأمه تقول: أنه مجنون وعليك أن تعالج جنونه يا دكتور.

وفي عرفها جنونه أنه يخترع آلات وأجهزة ولكل معضلة يأتيم بإختراع.

الشاب حسن القوام متدفق الحيوية والنباهة، وعيونه تقدح ذكاءً، وكلامه في غاية الأدب، وسلوكه في تمام الأخلاق.

عاينته ولم أجد لوثة نفسية أو عقلية.

الشاب يقول: لأني أخترع يسموني مجنون!!

هاتان قصتان ولازلت محتارا بهما!!

وتحضرني قصة الأخوين رايت، وهما مصلحا دراجات هوائية  في محل صغير بمدينتهما، أحدهما إنحدر بدراجته في طريق نازل من مرتفع، وكان يرتدي معطفا طويلا وجاكيت في يوم شتائي عاصف، فانفلتت الأزرار وضربت الريح الجاكيت والمعطف الطويل، وارتفعت الدراجة الهوائية، فقدحت برأسه فكرة الطيران.

فعاد إلى المحل ووضع لوحين من الخشب على مقود الدراجة الهوائية، وإنحدر بها في ذلك الطريق، فارتفعت في الهواء، ومنها إنطلق الإثنان في صناعة ما يمكنه أن يطير، فكانت الطائرة وأصبح القرن العشرين عصر الطيران!!

فلو إفترضنا حصول ذلك في مجتمعاتنا لحسبناهما من المجانين، ولنبذناهما وسخرنا منهما، لكنهما في غير مجتمعاتنا  أثبتا بأنهما على صواب بأدلة دامغة أدت إلى الإنطلاق المذهل لصناعة الطائرات.

فكيف للحديد أن يطير؟!!

أ ليس الجنون بعينه؟!!

هذه السلوكيات بحاجة إلى بحوث ودراسات وزعزعة للتقاليد والأعراف والتصورات الخيباوية العاصفة في كيان الأمة لكي تكون!!

فدعوا العقل المخترع يبتكر الجديد، واتركوا جنونكم على الرف!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم