أقلام حرة

قراءةٌ في وجوهِ الجهلِ المُثقَّفةِ

عاطف الدرابسةثمَّةَ أشخاصٌ يمرُّونَ بحياتكَ مرورَ الشَّمسِ، فكلَّما غربُوا يتجدَّدونَ، وكأنَّهم مصدرُ حياةٍ لكَ وغنىً . وثمَّةَ أشخاصٌ طارئونَ، يمرُّونَ بحياتكَ كالهواءِ المُشبَعِ بالغبارِ، تحسبُهم ندىً، أو ماءً، أو مطراً، فإذا ما شرَعتَ تروزُهم، أو تُدقِّقُ في تفاصيلِهم، تجدُهم كالسَّرابِ، أو كخيبةِ الأملِ .

وبعضُ الأشخاصِ يجيئونَ في دُجى ليلكَ، يُبحرونَ في لُجَّةِ أحزانكَ، أو أوجاعكَ، فيستغلِّونَ لحظاتِ ضعفكَ، وهرمَ مشاعركَ، وجنونَ حرفكَ، فتراهم على وجهٍ غيرِ الوجهِ، فتستوي عندكَ في تلك اللحظةِ، كما يقولُ المتنبي : الأنوارُ والظُّلَمُ، فتحسبَ الورمَ شحماً، وصحَّةً، وعند أوَّلِ اختبارٍ حقيقيٍّ، تكتشفُ أنَّهم على قارعةِ الثَّقافةِ والفكرِ والأدبِ، يقولون ما لا يعرفونَ، وينقلونَ ما لا يفهمونَ، وحين تبدأُ آليَّاتُ الفهمِ، والتَّاويلِ، وأدواتُ الشَّرحِ، والتَّحليلِ، تعملُ فيما يكتبونَ، أو فيما ينقلونَ، أو فيما يشاركونَه من نصوصٍ، أو أعمالٍ أدبيَّةٍ، وغيرِ أدبيَّةٍ، تكتشفُ بغمضةِ عينٍ مدى هشاشةِ تفكيرِهم، وضيقِ أُفقِهم، وأنَّهم يثرثرونَ فيما ليس لهم به من علمٍ، وإن سعيتَ إلى حوارِهم تجدُهم من الزُّورِ أقرب، ومن الحقِّ أبعد . 

كم أتألَّمُ حين أجدُهم يُشيحونَ بعقولِهم عن الحقِّ، والعلمِ، ويلبسونَ ثوبَ الجهلِ على إصرارٍ، وتعمُّدٍ، بل وتتبدَّى لكَ بسهولةٍ كلُّ معالمِ الجهلِ والغباءِ .

وأمَّا إنْ تحدَّثنا عن (الأنا) عندَهم، فهي أكبرُ من ظاهرِ الأرضِ، وباطنِها، فتجدها حيناً كخيلٍ جميحٍ، أو كبركانٍ لا تعرفُ متى يثورُ، أو كقنبلةٍ عتيقةٍ، تخاف إن عبثتَ بها أن تنفجرَ بوجهك، وتُصابَ بالعمى، وكلَّما حاولتَ أن تمنحَهم الثِّقةَ أكثر، ازدادوا انتفاخاً، وورماً، وتضخَّمتْ أناتُهم أكثر، وحين تحاولُ أن تُنزِلهم دارةَ الفكرِ، أو تأخذُ بهم إلى طريقِ الصَّوابِ، تراهم ينفرونَ منكَ نفورَ الذِّئابِ، وأنتَ كنتَ تعتقدُ بأنَّهم كالحمامِ الذي يبادلكَ الغزلَ والوجعَ والبكاءَ .

هؤلاءِ غيرُ مأسوفٍ عليهم ؛ فدارُ لغتي لا تفتحُ لهم أبوابَها، وأنهارُ عقليَ لا تجري في صحراءِ عقولهم، وأنجمي لا تُشِعُّ في سماءِ ظلامِهم، وهم إن توهَّموا أنَّهم راحلينَ عنكَ، أو خارجينَ من ضوءِ هالتكَ، فهم في حقيقةِ الأمرِ، راحلينَ إليكَ، يطَّوفونَ حولَ لغتكَ، كأنَّهم معشرُ نحلٍ، في ضيافةِ قلبِ زهرةٍ، وحينَ يرتشفونَ رحيقَها، يتحوَّلونَ كحشراتِ اللَّيلِ في غرفةِ نومكَ، وعندما تروحُ في عميقِ النَّومِ، يتطفَّلونَ على أطرافِ لغتكَ، ويقتاتونَ على ذاكَ الدَّمِ الذي يجري في عروقِها، مجرى النَّهرِ الذي يشقُّ الأرضَ ضِفَّتينِ، فيسدُّ الجوعَ على ضِفَّةٍ، ويروي الحقولَ الِعطاشَ على الضِفِّةِ الأخرى هناك، هؤلاءِ ما اغتسلوا يوماً من ماءِ نهري، ولا أقاموا في مجرى لغتي مرَّتينِ .

 

د. عاطف الدرابسة

 

في المثقف اليوم