أقلام حرة

نصر بن سيار الكناني وسلوك الكراسي!!

صادق السامرائيآخر ولاة الدولة الأموية في خراسان، وقد أدرك بحكمته وحسه القيادي أن مخاطر تتنامى وعواقبها مروعة، فبدأ يحث ولاتها على التحفز واليقظة والتدخل والحسم، وما من أحد تنبه لتحذيراته أو أخذها على محمل الجد.

وخاطب القادة والولاة في العراق ودمشق وأهل المدينة بابيات شعر يشير فيها إلى ما سيحصل، وتوفى في سنة 131 هجرية  وقد عاش 85 عاما، وبعده بسنة سقطت الدولة الأموية.

وكتب التأريخ تنقل أنه نبه مثلما نبهت زرقاء اليمامة قومها، ولم يصدقوها وهي تحذرهم "إني أرى شجرا من خلفها بشرٌ...لأمرٍ إجتمع الأقوام والشجر".

وكان الرجل واليا على خراسان، ولا أستطيع تفسير لماذا لم يتخذ إجراءً وإكتفى بالتنبيه والتحذير، وكأن الأمر لا يعنيه ويحصل في حدود ولايته. 

فهذا الأمر فيه نظر، لكن المتوارد أنه كتب شهادة وفاة الدولة الأموية قبل أن تحين بأكثر من عام، وكأنه كان يرى الأمر لواقع، وما أراد أن يعيش فترة السقوط الحتمي فمات قبل أن تتهاوى الدولة وتتحقق رؤيته.

وفي رسالته إلى والي العراق يقول:

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه

وقد تيقنتَ أن لا خير في الكذب

بأن أرض خراسان قد رأيت بها

بيضا إذا أفرخت قد حدّثت بالعجب

فراخ عامين إلا أنها كبرت

لمّا يطرن وقد سربلن بالزغب

فإن يطرن ولم يُحتل لهن بها

يلهبن نيران حرب أيما لهب

وما يظهر من هذا التفاعل أن للكراسي سلوك مشترك، وهو إمعانها بالفوقية والنكران وتصغير حجم المخاطر، وعدم القدرة على رؤية الواقع، وإنما تمعن في فنتازيا عوالمها الرسمية الخيالية ذات البرتوكولات، التي تحقق خروج الحاكم عن بشريته وتحليقه في فضاءات علوية ذات مواصفات إلهية.

ولا تزال هذه الحالة فاعلة في مجتمعاتنا التي لا تعرف الدستور الضابط للسلوك السياسي.

فوالي العراق ربما ضحك منه، وإستهزأ بقوله، وما أجابه، وأنكر قوله، وربما أخذ يحسبه من أعداء الدولة وراح يحوك له ويدبر المكائد.

وبعد أن يئس من محاولاته راسل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

أرى تحت الرماد وميض جمر

ويوشك أن يكون له ضراما

فإن النار بالعودين تُذكى

وإن الحرب أولها كلام

فإن لم يطفها عقلاء قوم

يكون وقودها جثث وهام

فقلت من التعجب ليت شعري

أ ايقاظ أمية أم نيام

فإن يقظت فذاك بقاء ملك

وإن رقدت فأني لا ألام

فإن يكُ أصبحوا وثووا نياما

فقل قوموا فقد حان القيام

فغرّي عن رحالك ثم قولي

على الإسلام والعرب السلام

ولا أظنه قد قرأ ما كتب، أو أن الذين حوله حجبوا عنه ذلك، لأنهم حسبوه هراءً، أو أنه سيغضبه ولا يرضيه، وربما كانوا من المتفاعلين مع الحركة التي أشار إليها في شعره ورسالته، وغير ذلك من الإحتمالات، أو أنه قد قرأها وما حسبها ذات قيمة وتأثير فلديه مهام جسام أولى منها بالتدبير.

والعجيب في الأمر لا تذكر كتب التأريخ أن هناك مراسلات وردود ومتابعة لهذا الأمر بينه وبين الذين خاطبهم بل ما حصده هو التجاهل والإهمال.

وربما دفعه حرصه وقلقه بعد أن لم يجبه أحد من أولي الأمر، لطلب النجدة  من أهل المدينة وحثهم على النهوض للمواجهة،  فخاطبهم بهذه الكلمات:

أبلغ ربيعة في مرو وإخوتها

أن يغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب

ما بالكم تلقمون الحرب بينكم

كأن أهل الحجا على فعلكم غُيّب

وتتركون عدوا قد أظلكم

فيمن تأشب لا دين ولا حسب

ليسوا إلى عرب منا فنعرفهم

ولا صميم الموالي إن هم نسبوا

قوم يدينون دينا ما سمعت به

عن الرسول ولا جاءت به الكتب

ممن يكن سائلي عن أصل دينهم

فإن دينهم أن تُقتل العربُ

وفشلت محاولاته، ولا يُذكر ما فعل، لكن الذي يذكر أن حركة أبو مسلم الخراساني قد تفاقمت وتنامت، وصار مصير الدولة الأموية في خطر، وأصبحت على منزلق الإنهيار الحتمي.

وخلاصة هذه الرسائل، أن الحاكم في مجتمعاتنا لا يرى ولا يسمع، ويعيش في عالمه الخاص المنقطع عن الواقع، الذي يتم تصويره له من قبل حاشيته والمحيطين به من ذوي الرغبات والأطماع، فيتحول إلى دمية بأيديهم، ووسيلة لتحقيق وتنفيذ رغبات النفس الأمارة بالسوء التي فيهم.

فكم كتبت الأقلام ونبه المفكرون والشعراء والكتاب عن الأحوال وطرحت المعالجات، وما من حاكم وعى وإرعوى وقرأ وتعلم وتفاعل مع العقول.

بل أن الكثير جدا من الكتب ألفت والطروحات العلمية والدراسات نشرت تعالج قضايا الأمة والحكم، وما نفعت، حتى ليتعجب المرء كيف لأمة فيها كتاب "طبائع الإستبداد " منذ أكثر من قرن، وتفشى فيها الإستبداد على مدى قرن.

فالأمة قد أنجبت مفكرين ومصلحين وعقول ذات نظرة ثاقبة وقدرات حضارية هائلة، لكن أهوال الكراسي منعتها، وما إستمعت إليها، وما قرأتها وحسبتها من أعدائها، فأمعنت في إقصائها وتهجيرها وتدميرها.

وما يجري اليوم قد نبهت إليه الأقلام منذ عقود وعقود، بل أن العديد من المقالات قد نشرت في الصحف في العقود الأربعة الماضية تنبه على ما سيحصل، وتضع الحلول، وتتوقع السيناريوهات، لكنها وكأنها كانت تكتب على وجه الماء.

وحتى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كتبت الأقلام ونبهت وتوقعت وطالبت، وما من أحد يصغي ويتفاعل، وإنما كل الكراسي إعتصمت في محاريب رغباتها وقصورها العاجية المنقطعة تماما عن نهر الحياة المضطرب، وتحسب الحكم كذب وفساد وتقنّع بالدين والخطب العصماء!!

فهل نحن مجتمعات بلا بصيرة وتتحكم فيها الرغبات الدونية؟!!

فأين العقل يا أمة العقل؟!!

وأين الخير يا أمة الخير؟!!

 

د. صادق السامرائي

....................

* هذه القصة وجدتها مَثل واضح يتكرر في ماضينا وحاضرنا، ويشير إلى نمطية سلوك الكراسي  المنتج للويلات والنكبات المتوالية.

 

 

في المثقف اليوم