أقلام حرة

التقدّس والتدنّس!!

صادق السامرائيقدّس: نزّه، طهّر، جعله مباركا.

دنّسَ: وسّخَ، نجّسَ، لطّخَ

ترى لماذا يميل البشر للتقديس؟!!

يبدو أن هناك نزعة خَلقية كامنة في وعي ولا وعي المخلوقات تسعى للتقديس، بمعنى أن تقدّسَ موجودا ما فتربط مصيرها به، لتحرر ذاتها من المسؤولية ومشاعر الخوف والرعب، التي تنتابها وهي تمضي في حيرة وجودها المؤقت فوق التراب؟

فالتقديس ربما حاجة نفسية وجودية حتمية لا يمكن للحياة أن تتواصل بدونها، ولابد للمقدّسات في أي مجتمع ومكان وزمان، ذلك أن الحيرة والمجهول يفرضان ويحتمان سلوك التقديس عند المخلوقات الأرضية.

وكلما تخلّفت النفس البشرية إزداد ميلها للتقديس وأمعنت في صناعة الموجودات المقدسة، التي تضفي عليها صفات لا بشرية وتتبعها بعميائية وإندفاعية صاعقة ومدمرة لما فيها وحولها.

وهذا السلوك التقديسي ينتشر في المجتمعات المتأخرة ويستشري، ويكاد يتحكم بمفردات نشاطاتها اليومية، مما يزيدها تأخرا وتراجعا وإندساسا في قيعان الماضوية والإندثارية القاهرة.

فالميل للتقديس من التفاعلات البدائية التي إنتهجها البشر منذ أول خطواته على التراب، لكي يحلّ لغز وجوده وغايته وفحواه، وليؤهل نفسه وأجياله للبقاء، حتى إنتشرت الأشياء المقدسة في كل مكان، وتأسست المعابد والرموز التي تشير إليها ويتحدد سلوك البشر وفقا لإرادتها.

ويبدو أن إختلاق أو إبتداع الموجود المقدس وسيلة بشرية ذكية للتخلص من المسؤولية، وتحقيق أفظع التفاعلات المدنسة الفاسدة الآثمة المساهمة في الدمار والخراب وسفك الدماء، ومصادرة حقوق الآخرين والإستحواذ عليها، وفقا لإرادة الشيئ المقدس.

وهذا ربما يفسر إنتشار المظالم والمآثم في المجتمعات التي يتقدّس فيها الأشخاص الأموات منهم والأحياء، خصوصا عندما يكون المقدّس متعدد، ذلك أن التقديس المتعدد يساهم في تنمية التدنيس والفساد وتعليله وفقا لمناهج ورؤى المقدس المتّبَع، الذي يحقق رغبات الذين يجدون فيه ما هو متفق وتطلعاتهم الغريزية الدفينة.

ومن المعروف أن الأصنام وأمثالها، وحتى اليوم، كانت مقدسات ولكل جماعة مقدّسها الذي تعلق عليه مآثمها، وتنطلق منه لتسويغ ما تقوم به من أعمال الشرور، التي لا تتفق وما يجب أن يكون عليه السلوك البشري، حتى البدائي منه.

وهناك علاقة طردية ما بين التقديس والتدنيس، فكلما تنامى السلوك التقديسي تزايد السلوك التدنيسي، ولهذا يمكن تقدير درجات الفساد والخراب والظلم والتخلف في أي مجتمع بمجرد النظر إلى عدد المقدسات فيه، ذلك أن المجتمع قد إمتلك المنافذ العديدة القادرة على تبرير وتسويغ كل مفسدة ومظلمة وجريمة، حتى لتتحول الرذيلة فيه إلى قانون ودستور، والفضيلة إلى جريمة وشذوذ، وخروج عن إرادة المقدسات وسلوك المُقدسين المندفعين في متاهات الإشباع الرغبوي الغريزي الفتاك.

وعليه فأن الرذيلة هي التي تحكم في أي مجتمع يهيمن عليه السلوك الفردي والجمعي المقدّس، الذي يشل العقل ويبلد الروح ويؤازر النفس الأمّارة بالشرور، ويحتم سلوك الظلم والعدوان والإثم الرجيم!!

فقدّس ودنّس، ما دام التبرير حارس!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم