أقلام حرة

عندما تعلّمَ "ماو"!!

صادق السامرائيكان صديقي الصيني يحدثني كثيرا عن الرئيس "ماو"، فقد عاش طفولته في كنف جزءٍ من  فترة حكمه، ويعتبر نفسه من الجيل الذي صنعه "ماو" بشعره وخطاباته ومناهجه في التفكير، ويقول: إنه غير عقولنا، وأعاد برمجتها، فتحررنا من عبودية العقل العاطل، وإنتقلنا إلى فضاءات العقل الفاعل المبتكر المبدع، وكانت أشعاره أفكارا تنويرية ووسيلة لإعادة ترتيب آليات التفكير.

ويضيف: أن قريتنا البائسة أصبحت اليوم مركزا تجاريا عالميا فيها مكاتب لشركات من كل الدنيا.

وكان يمزح معي كثيرا، ومن مُزحه: أجّروا بلدكم للصين لبضعة سنوات، وسترون كيف ستكون عليه الأحوال!!

ومنه أدركت أهمية الرئيس ماو في بناء العقل الصيني، رغم ما يُقال وما أوجعوا رؤوسنا عنه من رؤى وكتابات في صبانا.

فرأيت أن أقرأ خطابات "ماو"، وهنا ألمّت بي الدهشة، وأدركت أنه كان يتعامل مع الواقع مثل طبيب ومريض، فخطاباته تنم عن علمية ودراية معرفية بمعنى التجربة وكيف تستخلص منها الدروس، فكان يرى أن كل قرار مثل الدواء علينا أن ندرسه جيدا، ونسوّقه بعناية ودراية ونقيم صلاحيته وأضراره الجانبية ونتعلم منه، فكانت القرارت التي يتم إتخاذها تخضع لمتابعات ودراسات وتقييمات مستفيضة، وتُستخلص منها دروس ورؤى ومنطلقات لإتخاذ قرارات أكثر صلاحية وقدرة على معالجة المشاكل.

وقد خضعت الثورة الثقافية بما رافقها من معضلات إلى أكبر تقييم وبحث ودراسة، حتى تمخضت عنها إستنتاجات وتوصيات أخذت الصين إلى آفاق لم تسبقها إليها أمم أخرى.

وبعد معاناة وتضحيات ونكسات وإنهيارات ومجاعات وخسائر كبيرة، تم إستيعاب التجارب وتحليلها وإستخلاص العبر القيادية منها، فتكونت الصين المعاصرة.

أي أن العقلية التي تفاعلت في الصين كانت ذات علمية عالية وتوجهات بحثية وتحليلية صارمة، أوصلتها إلى إستبصار معالم طرق الصيرورة الكبرى.

وفي واقعنا بأسره، تكون إقتراباتنا غير علمية ولا مدروسة وقراراتنا إنفعالية وغير منضبطة، ولا تستند إلى دراسة وبحث وتحليل، ولا نتعلم من التجارب مهما كانت جسيمة، وإنما نعيد تصنيعها ونستولدها ما هو أعقد منها، ولهذا ما تمكنّا من حل أبسط المشاكل.

ولو تأملنا ما جرى على مدى العقود الماضيات لتبين لنا أن التجارب التي خضناها لم تنفعنا، ونتائجها عقيمة وجميعنا ينهمك في تكرارها والتلذذ بتداعياتها، فحروبنا تتوالد وثوراتنا تتوالد، ومواجعنا تزمن وتتعقد وتكتسب وبائية عالية، وتستوطن ذاتنا وموضوعنا.

وإن لم ندرك بأن أي قرار عبارة عن دواء لمعالجة مشكلة، وعليه أن يخضع لمتطلبات وضوابط تسويق الدواء، فلن تنفعنا التجارب، ولن نتعلم منها شيئا كعادتنا، وسيتحقق الإستنقاع بأية مشكلة أو حالة في المجتمع.

فهل من قدرة على وعي التجربة؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم