أقلام حرة

امرأةٌ .. وثورة ..

عاطف الدرابسةجاءتْ تسألُني:

لِمَ لا تكتبُ عن البلدِ، أو هل نسيتَ البلد؟ نسيتَ الجوعَ، والحرمانَ، وذاك اليأسَ في عيونِ الشَّبابِ؟ ألا ترى ما يحدثُ في لبنان؟

أجبتُها بلغةِ الضَّبابِ، وبلغةٍ فاترةٍ، كشتاءِ هذا اليومِ، أو بلغةٍ شاحبةٍ، كشحوبِ امرأةٍ تذوبُ دمعاً، وحسرةً، من حياةٍ اكتشفتْ متأخرةً، أنَّها خيانةٌ أو كذب !

يا سيدتي:

لم أعدْ في ذروةِ انفعالي، ففي أعماقي ألمٌ مجهولٌ، لم أعدْ أشعرُ بتعاقبِ الأيامِ، أو تعاقبِ الفصولِ، ما عادَ أيُّ شيءٍ يُغريني لأكتبَ، وما عادتْ هذه الثَّوراتُ المُفتعلَةُ، المُموَّلةُ، المُزيَّفةُ تسحرنِي، وتُشعِلُ الحماسَ في داخلي، فأنا أيقنتُ أنَّنا شعوبٌ بلا إرادةٍ ؛ وكأنَّنا في حالةِ صقيعٍ، وجليدٍ دائمينِ، كأنَّنا من سُكَّانِ المُحيطينِ المُتجمِّدَينِ، فلو ثقبُوا كلَّ طبقاتِ الأوزونِ، ولو ذابتْ كلُّ المحيطاتِ المُتجمِّدةِ، وفاضتْ مياهُها على العالمِ، سنبقى نحنُ في حالةِ صقيعٍ، وجليدٍ إلى الأبدِ .

يا سيدتي:

أُفتِّشُ عن يومٍ أبيضَ، في زحمةِ الأيَّامِ السُّودِ، فلا أجدُ إلا صوتَ امرأةٍ، تعشقُ اللَّحظةَ كأنَّها الأبديَّةُ بعينِها، وتنفصلُ عن الماضي، كأنَّ الماضي خلايا سرطانيَّةٌ، وبينها وبينَ التَّاريخِ، طلاقٌ بائنٌ بينونةٌ كبرى .

وأُفتِّشُ بينَ صحرائيَ القديمةِ، وأشجارِيَ الكسولةِ، عن امرأةٍ سمراءَ، مُتسِقةَ القوامِ، جيدُها المُعطَّرُ برائحةِ الأمسِ العتيقِ، يتسامى كأنَّهُ موجُ بحرٍ، أو كأسُ خمرٍ، أو كأنَّه طيرٌ يُشبهُ الحَمَامِ، يحطُّ على ضِفافِ نهرٍ، يُعلِّمُ البحرَ، معنى العطاءِ، ويُعلِّمُ البحرَ أنَّهُ أكثر جشعاً من الحُكَّامِ والفاسدينِ، فهذا البحرُ على كثرةِ مائِه، يقتسمُ مع الأرضِ مطرَ السَّماءِ .

يا سيدتي:

بتُّ أرى نفسي كالشُّخوصِ الثَّانويَّةِ، أو كالشُّخوصِ الهامشيَّةِ، في روايةٍ لكاتبٍ مقموعٍ، أو كأنَّني شخصيَّةٌ مُضافَةٌ، في مشهدٍ، من فصلٍ في مسرحيَّةٍ . والثَّانويِّونَ أو الهامشيِّونَ، لا يُغيِّرونَ التَّاريخَ، ولا يصنعونَ الأحداثَ، ولكنَّهم يصلحُونَ شِعاراً للطبقةِ الفاسدةِ .

يا سيدتي:

أحبُّ أن أختلفَ على مستوى الفكرِ، والجسدِ، والعقيدةِ، والجنسِ، والدِّينِ مع بعضِ النَّاسِ، وأُحبُّ أن أحاورَ المُثقَّفينَ، وأنصافَ المُثقَّفينَ، وأحترمُ كلَّ وجهاتِ النَّظرِ المختلِفةِ، غيرَ أنِّي مؤمنٌ باليقينِ، وهذا الإيمانَ على نسبيَّتِهِ، وعلى عميقِ فلسفتِه، هو مفتاحي للشكِّ، فكلَّما كان يقيني بالأشياءِ أكبر، كان الشكُّ فيها أكثر.

يا سيدتي:

أعرفُ من أيِّ قِرْبَةٍ يتنزَّلُ المطرُ، وأعرفُ من أين تأتي البحارُ بكلِّ هذه الأمواجِ، وأعلمُ أنَّ الشَّواطئَ كالقُرى النَّائيةِ، أو كقرى الأطرافِ، يصلُها مدُّ البحرِ، معطَّراً بأريجِ الغارقين، لكنَّ الشَّواطئَ تبقى شواطئَ، لا يأسِرُها موجُ البحرِ فتغرقُ .

 

د.عاطف الدرابسة

 

في المثقف اليوم