أقلام حرة

غربة العقل

ياسمين البطاطثمة صعوبة في بداية كتابة كل نص، أشعر فجأة أن كل الكلمات والأفكار تتدفق في رأسي، وأن نتاج جميع القراءات والأحاديث الطويلة يسقط نفسه مرة واحدة على الورق، دعونا من هذا الآن، ففي كتاباتي؛ أنا لا أمنح الإجابات، أنا أطرح التساؤلات فقط وأترك لكم لذة البحث عن الحقيقة التي لن يصل إليها أحد، ولكن لنبقى متفائلين بأننا سنصل إلى شيء ربما في هذه الحياة، شيء مقنع تماما، كحقيقة الموت ربما، أو حقيقة أن الذي صنع كل شي هو واحد، حقيقة لا يمكننا أن نضع لها خيارين، لن نصل إلى الجزء البسيط من هذه الحقائق إلا بالسؤال، والسؤال الذي لم يتوقف منذ أن خلقنا على هذه الأرض.

هل شعرت يوما بغربة العقل؟ أو أنك شعرت بأن هذا الكون الواسع الذي لا أفق له، ليس ملكا لك؟ وأنك لا تنتمي أبدا إلى المكان، الفكرة، الشخص، أو حتى الدولة التي تعيش بها والتي سماها بعض السطحيين "الوطن". هل ما زلت تشعر بكل هذا إلى الآن؟ إذا كنت تجيب نفسك ب"نعم" فهذا المقال لك، أعد بكل حب، وبمشاعر مغتربة وقلب تائه جدا.

منذ أن كنا صغارا والقوالب الجاهزة تقدم لنا بكل إصرار لاقتناعها، يحمل كل وعاء وقالب جهة من حياتك، الحب، التعليم، الدين، حتى أنت، نعم، وضعوك في ذلك القالب وأخبروك أنه أنت، وأنك يجب أن تكون أنت في الحدود التي وضعت لك، القوالب الجاهزة التي وأدت السؤال وجميع علامات الاستفهام التي تجول في رؤوسنا، القوالب التي أعطتنا الإجابة لكل التساؤلات التي لم نطرحها وطرحناها، هي ذاتها القوالب التي ما إن نزعتها من عنقك، جعلتك غريبا، وكأنها كانت هي تلك حدود الراحة بالنسبة لك، وخروجك منها؛ أدخلك في عالم آخر تماما، عالم الغربة، عالم اللامكان، بلا خرائط، أو عنوان.

وبمناسبة خروجي من جميع القوالب في هذا المقال، لنأخذ كلمة كنا نحسب دائما أنها لن تتغير وأن معاناها سيبقى هكذا. هل فكرت يوما ماذا يعني الوطن؟ تعريف بسيط ربما؟ كلمات تخطر على عقلك عندما تسمع هذه الكلمة؟

منذ أن كنت طفلة وجميع من يعترض طريقي يسألني، من أين أنت؟ ما هو أصلك؟ ما هو وطنك؟ وعن أي وطن تتحدثون..لأسرد لكم جزءا صغيرا ومختصرا جدا من قصتي..

أنا ياسمين، ولدت ونشأت في ألمانيا مع أمي وأبي العراقيين، وكباقي العراقيين ضحايا الحروب فإنهم لم يعيشوا شبابهم على هذه الأرض، وبالتالي، فإن لغتي الأم هي الألمانية، ولغتي الثانوية هي العربية، والتي تعلمتها في سلطنة عمان، عندما انتقلت مع أمي وأخي إلى هناك، كنت حينها أبلغ من العمر تسع سنوات، المقصد ليس في سرد هذه المعلومات الآن وإنما في كيفية إجابتي عن السؤال الذي يطرح علي كل مرة..

ما هو وطنك؟ ثم أجيب على السؤال بسؤال آخر: وما هو الوطن بالنسبة لك؟ إن كان البلد الذي ولدت فيه فأنا ألمانية، وإن كان أصل أهلي وأجدادي فأنا عراقية وإن كان البلد الذي عشت فيه شبابي حتى اليوم فأنا عمانية، وإن كان الوطن هو البلد الذي أحب، فأنا فلسطينية. لا أقول هذا ليحل أحدكم لي هذا اللغز، ولا لإطلاق الأحكام المتعلقة بانتمائي وهويتي ووطني وأصلي..

ما هو الوطن بالنسبة لكم؟ ولأجيب أنا عن هذا التساؤل من وجهة نظري، فإنه يعني الكثير الذي لم يكتب بعد، لم يكن مفهوم الوطن يوما محصور في بقعة جغرافية معينة، بالتأكيد لم يكن الوطن بالنسبة لي أرض أو دولة أو جد سابع لي في القطب الشمالي أنتمي إليه، ومشكلتنا الحقيقية اليوم هي مفهومنا السطحي جدا تجاه كلمة كبيرة كهذه.

مكتبتي المتواضعة في غرفتي والتي ألجأ إليها في نهاية اليوم، عائلتي التي تحتضن قلبي كل يوم، ابتسامة طفلة، كوب قهوة مع من أحب، كل الأماكن التي زرتها ولم أزرها والتي تعلق بها قلبي، وطن، وأشياء اخرى كثيرة، ولذا من حقي أن أختار وطني، أن أقوم ببنائه أو البحث عنه، ومن حق كل واحد منا، أن لا يتمسك بقالب المفهوم الذي قدم لنا.

من قال أننا يجب أن نشعر بانتماء لمكان معين لم نراه يوما؟ من وضع قانون الوطن والوطنية؟ ومن وضع ذلك المفهوم الكبير في دولة واحدة؟ لا أحد. وفي رحلة الحياة أنا الآن حتى يحين الأجل، سأبقى في بحث مستمر، نحو الأفق الذي وجد عليه الوطن، وبما أننا لن نصل إلى الأفق يوما، سنواصل السير، نصنع لنا المهاجر الكثيرة التي سنعيش بها خلال الرحلة، المهجر الذي يحتضن ضياعنا، والذي يجمع شتات الغربة. بودكاست المهجر كان ومازال أحد هذه المحطات التي صنعتها لنفسي، بحثا عن وطن لم يكن يوما، ولكن لن أنسى ابدا، أن لي حق الاختيار والانتماء وتحديد الهوية، حق أن أكون انا، بلا قوالب فرضها المجتمع، حق أن أصنع وطني والدولة التي تسكن قلبي أين ما أشاء وكيف ما أشاء، وإلى ذلك الحين، سأتذكر دائما ما قاله أنيس شوشان في إحدى قصائده:

عش حرا يابن آدم     فهذه الأرض للجميع

ماذا عنك بعد كل هذا؛ ما هو وطنك؟ وما هي مكوناته؟ ما هو المهجر الذي صنعت لنفسك؟ وأين أنت اليوم من غربة الأفكار؟ صدقني، لا داعي للقلق، فالغربة التي نعيشها اليوم، أصبحت أشبه بالهوية، هوية كل عربي، أو كل إنسان، هوية الخارج من القوالب المحدودة والأجوبة الجاهزة.

ابحث، واصل السير، هناك شيء ما ينتظرك في نهاية الطريق، وكي لا أكون مثالية الآن، نحن مجبرون على الاستمرار، ومجبرون على البقاء حتى يحين الوقت الذي كتب لنا، لذا، لنعيش التجربة، نعانق الأحلام، ونصنع من كل مهجر نمر به جزء من الوطن البعيد.

أمنيتي الأخيرة أن لا نتوقف عن السؤال، وأن لا نحبس علامات الاستفهامات داخل حناجرنا، أما الوسيلة للبحث، فتختارها أنت، ربما ستكون القراءة، أو الكتابة، أو التحدث، أو كل هذه الأمور، الأهم؛ أن تكون لماذا؟ وكيف؟ في مقدمة عقولنا دائما. دمتم بسلام دائما وأبدا.

 

ياسمين البطاط

 

في المثقف اليوم