أقلام حرة

مقالةُ العَقل في الإسلام (3)

مجدي ابراهيملم يكن العقل الذي هو "نورُ القلب" إلا السبيل الذي لا شك فيه إلى الاتصال بالله من طريق معرفته، ولا معنى للعقل في علوم التزكية قاطبةً ما لم يكن نورُ القلب فيه سبيلاً إلى الآخرة وكل ما يُقرب إليها من قول أو عمل. قال العُرَفاء : العقل نور القلب، وبنور القلب ينظر العبد إلى طريق الآخرة في ظلم الهوى، فيبقى حيرانَ، فعند ذلك تنشرح الجوارح وتلتذ، وتبادر إلى سلوك سبيل المهلكات طالما أنطفئ نور العقل؛ فإنّ كثف نور العقل أضاءَ نوره، وقوى ضوؤه وطفئت عند ذلك نيران الهوى وزالت ظلمته، وقد دَلّ دليل العلم حينئذٍ على الهدى والتمييز، وانفتحت له سدادة السلوك، فعمل لطريق الآخرة.

ومفادُ العقل عند أرباب المعرفة هو أن ينزع بصاحبه منازع التّبصرة بدين الله، وأن تتحقق هذه المنازع في دلالة السلوك. ولأحمد بن عاصم الأنطاكي قوله في ذلك :" العاقلُ من عَقَلَ عن الله عزّ وجلّ مواعظه، وعَرَف ما يضرُّه مما ينفعه". وأبو حفص النيسابوري (ت270هـ) لما سئل "من العاقل؟" قال :"المُطالب نفسه بالإخلاص". لكأنما العقل عن الله يقتضي الإخلاص في طلبه. والإخلاص في طلبه سبحانه إنما هو عقلٌ عن الله، ولا عقل على الإطلاق وفي صاحبه بقية من هوى النفس ورعونة في تقديرها بغير استحقاق.

لقد سبقت الإشارة فيما تقدّم إلى العقل الغريزي، والمقصود بالغريزي اللطيفة المركوزة في الإنسان والمُهيأة بحكم وظيفتها العلوية لذكر العلوم والمعارف. ووجوده في الطفل كوجود النخلة في النواة، والسنبلة في الحبّة، وهو للنفس بمنزلة العين. غير أن هناك نوعاً آخر من العقل يُدّعي بالعقل المستفاد، وهو أن تكون المعارف والعلوم النظرية حاضرة في النفس بحيث تلتفت إليها دائماً ولا تغيب عنها، ولا تجد للعقل مأثرة غير أهليّة الاختبار وأوليته في مناط التجريب، بما عَسَاهُ يصلح الإنسان في العواقب؛ فهذا ديدن العقل وإنْ كان على النفس في الابتداء مئونة ومشقة.

ولعلَّ هذا العقل الذي يعتمد على البصيرة هو نفسه الذي يقود إلى المشاهدة، إذْ المشاهدة عندهم على ثلاثة أقسام : مشاهدة الحق، وهى رؤية الأشياء بدلائل التوحيد، ومشاهدة للحق وهى رؤية الحق بالأشياء. ومشاهدة بالحق، وهى حقيقة اليقين بلا ارتياب، وفي هذه المشاهدة الأخيرة يكون الاتصال بالله ومعرفته؛ فلا اتصال بغير مشاهدة وبغير معرفة. والاتصال معناه وصول إلى الحقيقة، وهى عبارة عن مشاهدة تصريف الرَّب والمعرفة بصفاته ونعوته وعظمته وجلاله، وكيفية صدور الإيجاد عنه. وقد قالوا إنّ المشاهدة والمعاينة تأتي من حق اليقين.

والملاحظ أن تقسيم العقل الغريزي على هذا النحو يُشْبه تقسيم الفلاسفة للعقل المستفاد، وهو معنى استعداد النفس الإنسانية لانطباع التصورات على ذهنها. ولا يفهم المستفاد إلا بالنظر إلى العقل الفعال؛ فللعقل الفعال على العقل الإنساني أثران : أثر على العقل الهيولاني حين يصيره بالفعل ثم بالملكة. والأثر الآخر "يجذبه" إليه حين يتجه نحوه؛ ليعقله فيتحقق اتصاله به. ولكن هذه الجاذبية تحصل للعقل الإنساني حين يشتاق إلى العقل الأعلى فينجذب إليه بقوته؛ فالعقل الفعال إذا نظرنا إليه من حيث إنه يحرك العقل الهيولاني ويسيره من القوة إلى الفعل، سمى بالعقل العام، وإذا نظرنا إليه من حيث انبثاق الفيض عنه إلى العقل بالملكة واتصال هذا الأخير به دُعى بالعقل المستفاد. ومن ثم يصبح القول عن العقل الغريزي : أن وجوده في الطفل كوجود النخلة في النواة، إنما هو وجود قوة لا وجود فعل. في حين نجد أقوال الأوائل من الصوفية تفهم من العقل العام طابعه العملي كما قال يوسف بن الحسين الرازي :" أصلُ العقل الصمت، وباطن العقل كتمان السّر، وظاهر العقل الاقتداء بالسُّنة".

لا جدال في أن هذه الأقوال ما ظهر منها وما بطن، تطلعنا على اختلاف العقل في الدّين عنه في الفلسفة. إذْ لما كان منهج الفلسفة في أبلغ ثمراته هو شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين كما قال  ابن خلدون؛ فقد صار مع كونه كذلك منهجاً ناقصاً من حيث يظن به الكمال، هابطاً بالعقل من حيث يظن به الصعود؛ لأنه لا يفي بأغراض العقل في مجال الدين. وما فائدة أن أشحذ ذهني بأفكار مرتبة لأقارع خصمي بحجاج وأدلة كيما أتفوق عليه، فيكون لي الفوز في نهاية المطاف، من غير أن يفيدني ذلك من الوجهة العملية؟! ثم ما فائدة أن أنظر في مبحث من المباحث، كائنة ما كانت تلك المباحث، لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين دون أن يكون منعكساً ذلك كله على حياتي التي أعيشها؟!

إنّ الفكرة ما لم تكن خاضعة للتطبيق محققة للاختبار العملي فلن تجئ منها ثمرة طيبة. والكلمة ما لم تكن محملة بفكرة قابلة للتنفيذ، حاضرة في أعماق الوعي الآخذ بها مأخذ الجد لا مأخذ التسلية وإزجاء الفراغ الموقوت؛ فلن تجد لها قيمة.

من أجل ذلك، كانت معظم الأفكار حاملات القيم في التاريخ الفكري والثقافي هى أفكار قابلة للممارسة السلوكية وحاضرة حضور الوعي الملازم للتطبيق العملي. وأنها لو لم تكن كذلك؛ لوجب أن نعدّها أفكاراً ميتة في ذمة التاريخ وكفى .. خذ مثلاً فكرة كفكرة "الحرية" "العدالة" "الواجب" "الديمقراطية"  "الضمير" "المساواة" "الحق"  "الخير" "الصداقة" "الجمال"  الجلال" .. إلى كثيرٍ من الأفكار حاملات القيم، تجد أنها أفكاراً معبئة بالحركة والنشاط والفاعلية والنزوع الدائم للتطبيق والممارسة. ولها من بعد إطاران : إطارُ خارجي هو منها بمثابة التنظير والتحديد لمفهوماتها ومقوماتها في كل عصر من العصور، وهذه مهمة الفلسفة.

وإطارُ داخلي إنْ جازت هذه التسمية هو منها بمثابة المضمون "الجواني" الذي يكشف فيها من عنصر العمل والتطبيق، وهذه دعوة "الدين". وليس معنى هذا أن الدين جاء بلا إطار خارجي تجريدي فيما يتعلق بهذه الأفكار ، كلا .. ولكن الدين وضع إطاراً ينزل بالفكرة المعزولة من ثباتها التجريدي إلى حركة الحياة، فيسهل تطبيقها وممارستها. الإطار الذي وضعه الدين قابل للتدريب والتجريب والمعايشة. لكنما إطار الفلسفة، رغم تحديدها للمعاني وأطرها الخارجية، يدور في فلك التنظير.

وكثيرٌ من الفلاسفة كانوا تحدثوا في هذه الأفكار "حاملات القيم"، وقليلٌ منهم كان طبقها على واقع حياته الشخصية. والذين طبقوها منهم كان الوجدان الديني عندهم أقوى من النزوع العقلي النظري الفارغ من الممارسة العملية، يشهد على ذلك الفيلسوف اليوناني "سقراط " في توحيده بين المعرفة وسلوك الفضيلة فيما يتصل بمجال الأخلاق؛ فقد رأى أنه يجب على الفيلسوف الحق أن يسلك الفضيلة ؛ لأنه كان عَرَفَ لها طريقاً عقلياً وعلمياً؛ فمتى عرفت الخير عليك أن تسلكه ومتى عرفت الشر عليك أن تتوقاه. ولا يخفي أن المنازع العملية في مجال الدين تتمثل لأول وهلة في كل دعوة تدعو الإنسان إلى أن يكون ذا وجود روحاني، وأن ينكفئ على دخائله يفتش في أعماقه عن مصدر الروح، وأن يرضي مطالب الضمير قبل أن يرضي مطالب الجسد والأهواء.

تبدو النزعة العملية والسلوكية في كل دين، لا الدين الإسلامي وحده، واضحة في التصوف؛ لأن التصوف يعلو بالعقل إلى مقام الذوق وينزع إلى التجريب نزعة جارفة؛ ليعلي من قيم الروح وأصالة الأخلاق، فتشتعل في جوف المتصوف مشاعل من الحقائق الباطنة القائمة على رياضة السريرة والضمير.

ومعلومٌ أن التصوف قد أخذ من الإسلام جانبه العملي الأخلاقي السلوكي، ومضى بهذا الجانب إلى منتهاه، فما كان من الصوفية إلا أن عمقوه بلطائف إشاراتهم ومباحثهم وعلومهم، حتى أن المطلع عليها جملة فوق التفصيل يجد أنها تهدف في أكثرها إلى إحياء هذا الجانب العملي التهذيبي. وليس الدين شيئا أكثر من كونه معاملة.

والتصوف منه نزعةُ خاصّة تدين بدين الحب في المعاملة والتّوجُّه إلى جناب الحق تعالى : قاعدته الأساسية "العمل" النافع وحصر زاوية الشر حتى تضيق شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى تماماً أو تكاد من قلوب العاملين. وهيهات ! لأن شرَّ العوالم والأكوان مرهونٌ بتجليات صفات الجلال؛ فهو ليس شراً في ذاته وإنْ بدا في الظاهر أنه شرُّ محققٌ بغير تحقيق للناظرين.

وما خلى التصوف قط برغم ارتكازه على مجاهدة النفس وسياستها بالرياضة وقطع الرغبات الموبوءة، من طلب المعرفة العقلية؛ فمن الصوفية من طلب سلامة النفس من طريق المعرفة النظرية، لكن هذه المعرفة النظرية تجئ دائماً في مرحلة تالية للتجربة الروحية وللسلوك العملي.

فلئن كانوا أخذوا الجانب العقلاني طلباً للمعرفة، فهم لم يتجهوا مثل هذا الاتجاه إلا ليكون العقل شارحاً للتجربة التي يعانيها الصوفي في حياته الروحية، وقد بلغوا بالعقل إلى أقصاه، ولم يتركوا منه شيئاً إلا مزجوه بأذواقهم ومواجيدهم؛ فإذا أمامك تراث هائل من التصوف الفلسفي يتمشى فيه العقل جنباً إلى جنب مع الذوق الذي هو منهج الصوفية الأول والأخير؛ ففي الحكمة الإشراقية وتراث السَّهْرَوَردْي الحلبي المقتول (587 هـ) أو في وحدة الوجود وتراث ابن عربي (ت 638هـ) وتلاميذه كالجيلي والقاشاني والقونوي وغيرهم، أو في الوحدة المطلقة وتراث ابن سبعين (ت669هـ) أفكارٌ فلسفية في مضمون صوفي، عملية في نزعة عقلية، داخلية في أشكال خارجية. والمطلع على هذا التراث الصوفي الفلسفي، لا يملك إلا الإعجاب الشديد بقدرة هؤلاء السّادة على مزج الثقافات الإنسانية الروحية مزجاً يخيل إليك فيه أنهم كانوا حكماء بحث وعقل ونظر فوق كونهم حكماء تأله وذَوْق واستبصار.

ولكنهم مع كل هذا؛ فهم يفترقون عن فلاسفة الفلسفة العقلية الصارمة، فهم ليسوا كأرسطو اليونان، ولن يُشرفهم أن يكونوا مثله، ولا هم كابن باجة وابن طفيل وابن رشد من فلاسفة المغرب العربي، بل .. ولا هم كالفارابي وابن سينا في المشرق العربي، إذا نحن أخذنا في الاعتبار التجربة الروحية، والحياة العملية المختبرة في إطارها، ومدى تغلغل الشعور الديني ذوقاً ووجداناً في صميم أفئدتهم الجياشة بالحكمة والمعرفة. ليس هؤلاء كأولئك، ولن يكون للتوجُّه ولا للطلب متساوين.

كتب ابن سينا في التصوف، ولكنه لم يسلك لا من قريب ولا من بعيد سلوك الصوفية، وكذلك فعل الفارابي من قبله، وكان الكندي قبلهما عالماً قبل أن يكون فليسوفاً. أمّا فلاسفة المغرب فقد رفضوا التصوف جملة وتفصيلاً وحملوا عليه حملتهم الشنعاء حين فضلوا عليه مسيرة أرسطو الفكرية، واتخذوا منها منهجاً لهم في مؤلفاتهم التي ما تجاوزوا فيها غير الشرح والتعليق على مؤلفات أرسطو. وورث هذه النزعة الصدامية المنغلقة رجال من المعاصرين في بلاد المغرب الأقصى أو الأدنى سيّان، اتخذوا من تلك النزعة محط رحال عن الذوق الديني وتقليد مطلق للعقل النظري مع هجوم بغيض غير منصف لتوجُّهات العارفين.

وكتب ابن باجة "تدبير المتوحِّد"، والمتوحّد عنده هو الرجل الذي يصل بالعقل، والعقل فقط بعيداً عن أدنى اعتبار للدين، إلى أعلى منازل التفرُّد والاستقلالية، وإلى درجة يكون فيها التقديس للعقل أكثر مما يكون التقديس لله الذي خَلق العقل كما خلق طلابه والمنافحين عنه ضد العامة وبلادة الغوغاء.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أننا نجد في بحوث الفلاسفة العقلية، ما يؤكد وجهة النظر التي نذهب إليها في فصل الاتصال بين الدين والفلسفة من مقال يوهم بالتوفيق. وفي الحق أنه لا توفيق؛ فابن باجة كان اتجه في كتابه "تدبير المتوحّد" إلى إقامة حياة المتوحّد على أساس الناحية العقلية الصرفة بما فيها من تفرد من جهة، وبما فيها اشتراك من جهة أخرى، ولكن بشرط أن يكون من يشترك الإنسان معهم من المتوحدين هم من الملتزمين مثله بمنهج الفكر. ونحن لا نجد أثراً للدين في مدينة المتوحِّد. وبما أننا نجد في "الدين" دعوة إلى المشاركة في الحياة الاجتماعية والالتزام بالعبادات التي تجمع بين الناس جميعاً في كل مكان، صار ما نجده عند ابن باجة نوعاً من التّفَرد الذي يبتعد فيه المتوحّد عن اهتمامات الجماهير، ابتعاداً يلتزم فيه "الوجود" بما فيه من أزلية وثبات. ولعلّ هذا هو "دين العقل" الذي أكد ابن رشد ضرورته للعقول التي تذهب بالعقل إلى منتهاه، ولا ترى بعده غاية تنتهي عندها، هو الدين الذي يجعل العقل مقدَّمَاً على الشرع؛ لأن الشرع عام، والعقلُ خاص مخصوص بالحكماء. وشريعةُ الحكماء هى الفحص عن جميع الموجودات بحكمة معقودة على التثبت والنظر لا على العبادة والعمل بمقتضى الشرع المنزل.

وشرحُ ابن رشد أرسطو، فكان في شروحه وفياً لفكر أرسطو ماضياً على دربه إلى حدِّ التقليد مثلما وصفه ابن سبعين بأنه كان مقلداً لأرسطو وله في التقليد نسبلٌ عريق. أمّا ابن طفيل، فهو لم يكتب إلا قصته الفلسفية "حي بن يقظان"، ولا يبعد أن يكون متأثراً فيها بالجانب الصوفي إلا أن الأغلب عليه هو الاتجاه العقلي. لكأنما الذي يقرأها وهو متشبع بالحياة الروحية واتجاهات التصوف، ينسب القصة إلى المنازع الصوفية، والذي يقرأها واتجاهه الفكري عقلاني، يُضفي عليها البواعث العقلية الصرفة، كما فعل "رينان" في هذه الوجهة وكما فعل "ماسينيون" في الوجهة الأولى.

تأثر الصوفية بأفلاطون وأفلوطين، وتأثر الفلاسفة العقليون بأرسطو، وفي هذا برهانٌ على أن العقل في الإسلام غير العقل في الفلسفة. لقد كان الأثر الأفلاطوني والأفلوطيني عند الصوفية أضعف بكثير من الأثر الأرسطي على الفلاسفة العقليين.. لماذا؟! لأن الصوفية تحكمهم خلفية دينية ومضمون داخلي أكثر مما تحكم هذه الخلفية وذاك المضمون الفلاسفة. يتجه الصوفية إلى العقل والتجربة الروحية كامنة فيهم، رابضة في قلوبهم،  متغلغلة في أعمق أعماق طواياهم، ووراؤهم شحنة معنوية كثيفة من التراث الروحي ونظام العقيدة والسلوك مصقولة بما في الإسلام والثقافة الروحية من دعوة عملية وتجربة سلوكية، ومن منهج ذوقي يساير في خصائصه ذلك التراث الروحي الهائل، وهاته الثورة العجيبة التي كان الصوفية انطلقوا منها بعد أن تبيّنوا معالمها وأدركوا أسرارها في القلب والضمير.

فإذا عرض العقل الفلسفي بضاعته عليهم وأعجبوا بها، لم يتخذوها مصدراً ولا مطية لهم ولا نموذجاً يحتذي في عالم التجريد، ولم يضعوا عليها الشروح والتفاسير، ولم يتخلوا مطلقاً عن هويتهم ولا مضمونهم الجواني، وإنما كانوا جميعاً في الفلسفة الصوفية طلائع يتشوفون المعرفة لدى الآخرين، ويدخلون الأنظمة المعرفية التي سنّها العقل في سياق التجربة الروحية بحيث لا تطغي عليها، بل تفسرها كلما أمكن التفسير.

وإنّا من بعدُ لسائلون ذوي الفلسفة، عقلية كانت أم غير عقلية : هل العقل عند الكندي والفارابي وابن سينا أو عند ابن باجة وابن طفيل وابن رشد هو عينه العقل عند المكي والمحاسبي والقشيري والجنيد والغزالي وغيرهما من أقطاب التصوف  السُّني مثلاً؟ والإجابة على ذلك بالنفي القاطع. وهو وإن كان كذلك في التصوف السني، ففي التصوف الفلسفي أيضاً لا يخرج عن مضمونه في الحياة الروحية خلال القرون الأربعة الأولى للتصوف السُّني على أقل تقدير، رغم ما يبدو من تصالح واضح في الفلسفة الصوفية بين الذوق والعقل.

قوامُ الطريق الصوفي زهدُ عملي، وقوام الفلسفة نزوع عقلي، وقد فرَّق "وليم جيمس" بين الفلسفة والدين ممثلاً في الطريقة التّصوّفيّة قائلاً : إنّ الطريقة الصوفية المألوفة للوصول إلى رؤية الواحد، هى بالتدريب على التقشف، وهو تدرب يتماثل من حيث الجوهر في جميع الأنظمة الدينية. ولكن هذا النوع من الوحدانية الذي يجل عن الوصف، ليس على الدقة فلسفياً؛ لأن الفلسفة من حيث ماهيتها حديث وإفصاح".

وهو قول مقبول عندي في جانب كبير منه، ولكن موضع الخطأ فيه : نصّه على التماثل من حيث الجوهر، فلو قال التماثل من حيث الشكل، لكان أصوب. فالجوهر في مضمونه يختلف من نظام ديني إلى نظام آخر، إنما الشكل قد يتشابه بين الأنظمة الدينية لا كل التشابه كله، بل بعضه، وقليل من البعض في كثير من الأحيان، ولا خلاف. هذه واحدة . أما الثانية فوصفه للفلسفة بالإفصاح ونزع التصوف عنه وهو إشكال مصنوع مفتعل لأن التصوف كنظام في الدين أو قُل كتفكير في الدين يقتضي الإفصاح والتعبير وإنْ فاقت لغته بالإشارة عبارات الفلاسفة وتميزت عنها تميز الأضداد.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم