أقلام حرة

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء

اكرم جلالالضميرُ والفكرُ رُكنان أساسيان من أركان الذات البشرية، وهما جناحان يحلّق بهما الصادقون نحو فضاء الانسانية.

الضميرُ هو المُقوَد الذي يُسَيّر الفكر نحو طريق الصلاح ويحلّيه بالقِيَم الأخلاقية والمبادئ الانسانية، إنّه البوصله الموصلة نحو الُفكر الصادق، وهو المرآة التي من خلالها يرى المفكر الأشياء على حقائقها، الحسن حسناً والقبيح قبيحاً، قولاً كان ذلك أم فعلاً، إنّه الرّادع والمانع عن الإتيان بالخطايا والذنوب والإنزلاق نحو الكوارث والحروب. الضمير هو الصديق الوفي والرقيب الشجاع، وهو المؤنّب والرادع حينما يشطّ الفكر عن جادة الحق نحو الهاوية والضياع.

 الضمير هو ماء الحياة الذي من دونه يموت الفكر وينعدم، سواء كان فكراً فلسفياً أو سياسياً أو اقتصادياً، فإن الانسان من دونه ميّت ولو مازال على قيد الحياة.  

وللضميرِ قلبٌ نابض اسمه الرّحمة وعقلٌ عِماده الحقّ والعدل والاحسان ، وحينما تتوقف قلوب الرحمة عن النبض ، وتتبلّد الضمائر وتتيه النفوس وتضل عن جادة الحق، ستتيه عندها العقول عن إدراك الحق والسير تحت رايته، وستبدأ بخداع نفسها، ظانّة أنّها على الحق. وَسَيَختفي بعدها أيّ وخز أو تأنيب، وستموت المشاعر والأحاسيس من البعيد والقريب.

وعندما يَسقط مُنكسراً جناح الضمير لتنطفئ تلك الشعلة الوهّاجة وتتحول الى ظلام دامس لا نور فيها،  وعندما يخرس صوت الحق ويتوقف عن النطق، فإن جناح الفكر هو الآخر سينكسر تباعاً. وَكَذِبَ من إدّعى أنه يحمل فكراً وهو بلا ضمير، قال الله تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [ النحل: 21].

وهكذا، حينما تتعطل الإنسيابية وَتَختلّ العلاقة ويختفي الإنسجام بين جَناحيّ الضمير والفكر، فإن الانسان سيمضي نحو دهاليز خطيرة، دهاليزَ اللّاأخلاق واللّاقيم واللّامبادئ واللّاانسانية، حيث يتحوّل الانسان الى وحش كاسر، لا يردعه رادع، ولا يمنعه عن الوصول الى مآربه مانع، فكل شئ قد مات فيه، ليبدأ بالسير بطريق الضلال، وهو يظن أنه يُحسن صنعا، فالبوصلة قد توقفت، والحارس قد سقط.

الفكر الذي يعيش بمعزل عن الضمير هو فكر ميّت، يسوّغ لصاحبه الأفكار الميته، يُجمّل له القبيح، ويُقبّح له الجميل، ويبرر له الغش والسرقة والأحتيال، يقول المفكر الفرنسي جان جاك روسو: "يوجد في سر النفوس مبدأ يولد مع الإنسان، على ضوئه يحكم الفرد، ولو صدم ذلك ميوله، على تصرفاته وتصرفات غيره، فينعتها بالصالحة أو بالفاسدة. وهذا المبدأ هو ما أسميه الضمير”. (ص 74).

لقد ولد الضمير لعيش بالقرب من الفكر، راعياً وموقظاً وقائداً ومربياً، وحينما يتمزق هذا الإلتحام ويسقط الضمير صريعا للشهوات والنزوات الدنيوية فإن البصيرة ستصاب بالعَطَب ويتيه بعدها الانسان وتضطرب لديه الرؤية ليصعب عليه التفريق بعدها بين الخير الشر، الحق والباطل، أو بين القيم والأخلاق والمصالح والمنافع الشخصية.

إذن فأهل الضمائر الحية هم وحدهم القادرون على بناء فكر رصين، وحينما تطّلع على أفكارهم تنتابك حالة من الراحة والطمأنينة، لأنك تقرأ أو تسمع لأشخاص صادقين غير مخادعين، اشخاص يمتلكون فكراً أصيلا لأنهم جعلوا من ضمائرهم حارسا ورقيبا، ولأنّهم كانوا أمناء مع أنفسهم كانت كلماتهم وأفكارهم صادقة، أولئك هم الأحياء حقاً، ومن باعوا الضمائر هم الأموات وإن كانوا على قيد الحياة.

 

د. أكرم جلال

 

في المثقف اليوم