أقلام حرة

صعود الفكرة العرقية في العراق.. أحلام الأقلية الدخيلة

ميثم الجنابيالعراق- نقد الواقع وتأسيس البدائل (15)

حالما ننظر إلى مواقف الحركات القومية الكردية في ما جرى ويجري من احداث في العراق، وبالأخص بعد الغزو الأمريكي عام 2003، بمعايير الانتماء الوطني للعراق، فإنها لا تتعدى في الواقع أكثر من «تكتيك» الرؤية «المعتدلة» والرياء «النفعي» المميزة للنزعة الانفصالية الكردية. وهي نتيجة يمكن رصدها في التربية الدفينة للحركات القومية الكردية وبروزها «السياسي» في عبارات الابتزاز الفارغة التي تملأ مواقف الحركة البارازانية بلأخص. وتبرز هذه المواقف بوضوح مع كل «انتصار» و«تقدم» صغير في «تجسيد الأحلام الكردية». واكتفي هنا بالإشارة إلى موقف واحد من بين عشرات المواقف المشابهة التي تصب في نفس الاتجاه، ألا وهو القول، بأن ما «يمنع» الأكراد عن الانفصال عن العراق هو «الظروف غير المناسبة». فقد قال مسعود بارزاني في لقاء جمعه بعدد من ممثلي الطلبة والشباب بمنتجع صلاح الدين، بأن السبب القائم وراء عدم إقدامه على إعلان الدولة المستقلة هو انتظار ما تفرزه التطورات اللاحقة التي «قد تقلب الموازين والوقائع»! وقال بهذا الصدد «أود أن أبلغكم هنا وكونوا على ثقة بأننا نتطلع إلى اليوم الذي نعلن فيه من داخل البرلمان الكردستاني دولتنا المستقلة ليتحقق حلمكم هذا»! لكنه استدرك لاحقا بالقول «إذا عدنا لما قبل عشر سنوات سنجد أن ما تحقق الآن قد لا يكون الإنسان حلم به، ولا ندري ماذا سيحدث بعد عشر سنوات من الآن من تطورات قد تقلب الموازين والوقائع». و«أن ما تحقق في الدستور العراقي لنا كشعب كردي تعتبر مكاسب كبيرة رغم أنها لا تلبي جميع طموحاتنا. وما تحقق كان بفضل من دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها وكذلك بدعم الأمم المتحدة». و«أن هذه المكاسب مثبتة في الدستور، وهي أضمن لنا من إعلان دولة مستقلة قد لا تحظى بهذا الدعم الدولي الموجود الآن وبالتالي قد نجازف في أمر نفقد من خلاله ما تحقق لحد الآن من الدعم الدولي». وفي مجال تحالفاته السياسية اللاحقة، فإنه ربط ذلك بما اسماه بموقف «الكتل والقوى من الفدرالية والديمقراطية والتعددية والمطالب الكردية في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وخانقين والسنجار وغيرها».

إننا نقف أمام صيغة «كلاسيكية» للنزعة الانفصالية المراوغة والمليئة بنفسية المغامرة والمقامرة والمؤامرة، باختصار بكل الرذائل السياسية التي لا مخرج لها من حيث الجوهر سوى الخيانة الفعلية للفكرة الوطنية. فالعراق بالنسبة لهذا النمط من التفكير السياسي العرقي هو أما مجرد بقرة حلوب، وأما أداة لبلوغ أهداف خاصة وأما «شريك» للسرقة!! وفي مجملها تعكس حقيقة الموقف غير الوطني للتيار البارازاني الذي اتصف تاريخيا بالاستعداد للاتفاق مع مختلف الأطراف الأجنبية والخارجية في صراعها مع العراق وضد مصالحه الوطنية العليا. وذلك لأن القوة الوطنية الحقيقة ينبغي أن تضع على الدوام فرقا بين صراعها وحتى عداءها للسلطة السياسية القائمة وبين المصالح الوطنية الكبرى للدولة والوطن. إلا أن عبارات البارازاني تكشف حقيقة نوايا ونمط تفكير هذا التيار. ففيها نقرأ فقدان الرؤية الوطنية العراقية بل ومعاداتها في عبارته القائلة:«وما تحقق كان بفضل من دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها وكذلك بدعم الأمم المتحدة». وفيما لو أزلنا كلمة «الأمم المتحدة» بوصفها عبارة دبلوماسية، وكان بإمكانه أن يقول «إسرائيل» لولا الفضيحة، فإن ذلك يعني ليس فقط تجاهل العراقيين العرب وغيرهم في الصراع ضد الأنظمة الدكتاتورية من اجل صنع عراق ديمقراطي يتمتع به الجميع بحقوق متكافئة، بل واستهجان لهم أيضا. ويعبر هذا الاستهجان عن نفسية الغنيمة وليس الشراكة الوطنية. وهي فكرة جلية في ما اسماه باشتراط التحالف مع القوى التي تستجيب لمطالبه «بالفدرالية والديمقراطية والتعددية والمطالب الكردية في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وخانقين والسنجار وغيرها». لكنه لم يوضح مقابل أي شيء؟ وقد تكون الإجابة مقابل «البقاء في العراق»! إذن لماذا كل هذا الضجيج والدعوة لإقامة الدولة المستقلة. أم أن ذلك يفترض الحصول على «الأراضي المتنازع عليها» بوصفه اليوم الذي يمكنه أن يكون «يوم إعلان الدولة المستقلة من داخل البرلمان الكردستاني»! إذن لماذا هذه المطالب؟ أم إننا نقف أمام نموذج "كوردي" متميز في فهمه للاعتدال والنفعية؟ وهو اعتدال ونفعية مهمتها البرهنة «للحلفاء» الجدد (الأمريكيين) بالاستعداد الدائم لخدمة مصالحهم. كما تعكس هذه النفسية طبيعة الذهنية السياسية للحركة البارازانية التي كان اغلب تاريخها السياسي زمناً للارتماء بأحضان القوى الخارجية. ونعثر على هذه النفسية المستبطنة في عبارة البارزاني القائلة «قد تقلب الموازين والوقائع»، التي تجعل من الممكن «إعلان الدولة المستقلة». وهي عبارة تسقط كل معنى «الاعتدال والنفعية» وفكرة «نحن وطنيون عراقيون» وليس «انتحاريين قوميين».

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام خليط غير متجانس من الأفكار والمواقف يعكس بمجمله خلل الفكرة الوطنية العراقية في الفكر القومي الكردي المعاصر، والذي تمثله بصورة نموذجية الأبعاد الدفينة لكلمة «قد تقلب الموازين والوقائع». ويمكن فهم المعنى الباطني لهذه العبارة في الفكرة المباشرة التي طرحها البارزاني مرات عديدة في الفترة الأخيرة والقائلة، بأن الأكراد سوف يعلنون استقلالهم في حال نشوب حرب أهلية بين العرب في العراق. وفيما لو أهملنا شرارة «الحرب القبلية» المحترقة تحت غطاء البارزانية والطالبانية بين الأكراد، أي استحالة الاتفاق على «دويلة واحدة» بين الأكراد أنفسهم، دع عنك كل الجوانب الأخرى المستحيلة فيها، فإن مضمونها الفعلي يشير إلى طبيعة النقص الجوهري في الفكرة الوطنية عند الحركات القومية الكردية الحالية.

وتعكس هذه «الفكرة» المزاج الدفين للتيار البارزاني. حقيقة أن ذلك ليس معزولا عن الصراع الدفين بينه وبين التيار الطالبانيي، إلا انه يشير من الناحية الموضوعية إلى طبيعة الخلل الفعلي في الرؤية الوطنية العراقية، وصعود الرؤية العرقية والمزاج القومي المشّوه، أي كل ما وجد انعكاسه في الرغبة الرذيلة عن إمكانية أن تكون الحرب الأهلية وسيلة بلوغ «الدولة المستقلة» للأكراد. وهو مزاج يعبر عن طبيعة «الاعتدال والبراجماتيكية» البارزانية بصدد الفكرة الوطنية العراقية.

إن ربط إمكانية ما اسماه بالحرب الأهلية بين الشيعة والسنّة، هو تعبير عن نفسية دفينة تعكس النزعة القبلية السائدة في التيارات القومية الكردية الحالية في العراق. بمعنى إننا نعثر فيها على تحريض ومساومة من نوع فاحش. والقضية هنا ليست فقط في عدم معرفة ماهية وحدود «العراق» و«الاستقلال» و«الدولة الكردية» في عبارة البارزاني، بل ولما فيها من جهل بماهية الحرب الأهلية وخصوصيتها وأثرها المحتمل في العراق والمنطقة، ومن ثم بالنسبة لمصير «الدولة الكردية». فالحرب الأهلية، كما هو معروف، هي أولا وقبل كل شيء حرب بلا قواعد. من هنا يصعب تحديد مداها الزمني وحدودها الجغرافية. كما يصعب تحديد أثرها وأساليبها، لأن آلية فعلها تفتقد لأية معايير عقلانية وواقعية. أنها محكومة بقواعد الثأر والانتقام. ومن ثم لا تصنع في مجرى اندلاعها سوى قوى همجية غير عقلانية. والحرب تنتهي بالضرورة، ومن ثم فالأكراد بحاجة إلى قوى للاتفاق معها. وعندما تلتقي قوى لا عقلانية من الطرفين فإن النتائج المحتملة هي «حرب حتى الرمق الأخير». ذلك يعني، أن نشوب حرب أهلية في العراق يعني فشل ما يسمى بالمشروع الأمريكي للإصلاح والديمقراطية والشرق الأوسط الكبير والصغير وما شابه ذلك. ومن ثم يفترض ذلك بالضرورة خروجها من قواعد اللعبة السياسية والعسكرية العائمة حاليا. أما فشل المشروع الأمريكي وخروج الولايات المتحدة من لعبة التدخل المباشر في شئون العراق الداخلية، فإنه يعني تدخل خارجي دولي وإقليمي بالأخص. وهو تدخل لا يرحم الأكراد أو أي كيان آخر. فالطبيعة لا تحب الفراغ، والمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الإقليمية هي اشد عنفا في الظروف التاريخية الحالية من الطبيعة، لأن الأخيرة لا تعرف الهمجية، لكنها تعرف "الثأر". بينما الدول الإقليمية تعرف الثأر والهمجية بقدر متساو. وهي نتيجة تجعل من المستحيل بالنسبة «للدولة الكردية» المعلنة الابتعاد عن آثارها، بما في ذلك عن آثار الصراع «السنّي الشيعي». والقضية هنا ليست في ما يسمى بالانتماء السنّي للأكراد، لأنه في الأغلب غطاء دعائي يستعمل عند الحاجة. لكن «الحاجة» في الحرب الأهلية عادة ما تكون لكل شيء. لهذا سوف تستهلك بالضرورة كل شيء بما في ذلك الصواب والخطأ والحقيقي والدعائي. فالحرب الأهلية آلة خشنة لا يمكنها التهام السنّة والشيعة العرب، بل والبرازانيين والطالبانيين السنّة الأكراد أيضا. أما النتيجة فهي إشراك الجميع في حروب بلا قاعدة، والقاعدة الوحيدة فيها ستكون لنفسية وذهنية «القاعدة» الزرقاوية ولاحقا "الخلافة الإسلامية" للبغدادي المزيف، أي لهمجية بلا حدود.

إن همجية بلا حدود تعني في ظروف العراق الحالية همجية عراقية عامة، أي حرب أهلية في عموم العراق. ولا يمكن حينها الاختباء وراء خطوط «المناطق الآمنة». إذ لا أمان آنذاك لأي كان، كما انه لا مصدر لتمويل الأمان والميليشيات واحتياجات الناس العاديين للعيش البسيط من «نفط مقابل غداء». وعندما تتلاشى معادلة النفط والغذاء، فإن المعادلة البديلة هنا هي الشحن العنيف للصراع والمواجهة الإقليمية. ولابد وأن ينتهي هذا الصراع بشكل ما من الأشكال. أما بفوز طرف على آخر أو بطريقة «التوافق»، بمعنى الاتفاق. ففي حالة فوز احد على آخر، فإن الفائز يكون بالضرورة مستكبرا وغاضبا ومتلذذا بالانتصار، تحدوه الرغبة الجامحة في القضاء على كل «خصم» و«غدار» و«خائن» وما إلى ذلك من صور سوف يجري صنعها وتصنيعها وتسويقها بصورة سريعة. وفي حال التوافق والمساومة بين «السنّة والشيعة» العرب، فان الأكراد سوف يكونوا الطرف الوحيد في «الغدر» و«الخيانة» و«العداء». الأمر الذي يؤدي أما إلى حرب «أهلية» على مستوى قومي. وهو ما لا تعارضه القوى الإقليمية. على العكس قد تكون أكثر استعدادا لتشجيعه ودعمه. كما أنها الرغبة التي سوف تتحمس لها اغلب «الأقليات الكردستانية» إن لم يكن جميعها. وسوف تجعل هذه الحالة من الأكراد القوة الأضعف والأكثر محاصرة. فضعفها التاريخي هو الأشد قسوة في الظروف الحالية من كل تاريخهم الحديث. وذلك لأن «التشتت» السابق في المنطقة وصراعاتها الداخلية كان يجعل من الأكراد عموما «ورقة ضغط» أو «ورقة لعب». أما الآن فإن الورقة الكردية في أيدي أمريكية أمينة! وهو تحول من الشرذمة في المصالح إلى وحدة متينة في الإستراتيجية. ولا علاقة جوهرية بين المصالح الكردية والأمريكية إلا من حيث استعدادها على خدمة «المصالح الحيوية» للولايات المتحدة. وبما أن القوة الكردية ضعيفة بحد ذاتها، وقوية نسبيا في معترك المصالح الإقليمية المتناحرة، فإن وضعها كاملة في قبضة المصالح الأمريكية يعني إضعافها آلاف المرات قياسا بالسابق. فالولايات المتحدة قوة جبارة، وبالتالي فان ضعف القوى الكردية هو أيضا الوجه الآخر لهذه المعادلة التعيسة. ولعل ما نراه الآن من حالة الأكراد الدخلاء في سوريا نموذجا لذلك. مع ان المستقبل هو اشد تعاسة لهذا النمط من الذهنية الكردية وسلوكها العملي.

مما سبق يتضح، بأن الآفاق البعيدة المترتبة على فكرة الحرب الأهلية هي إضعاف شنيع للأكراد وإفقادهم شبه التام لأي إسناد فعلي. مما يجعل منهم قوى قابلة للالتباس بزي «القوى الانفصالية» مع ما يترتب عليه من عنف مركب ضدهم ونشاط إقليمي مشترك للقضاء عليهم. لاسيما وأن الحركات القومية الكردية قد «نجحت» فعلا في استعداء دول المنطقة. ولم يبق في الواقع ملجأ لها غير العراق. وفي العراق حرب أهلية! غير أن هذه الصورة المكثفة أعلاه، أي الأقل دموية ومأساة مما سيجري في الواقع في حال نشوب حرب أهلية، كان ينبغي لها أن تثني رجلا عاديا من الحديث بفكرة مثل تلك التي أطلقها البارزاني. فالعاقل يصاب بالدهشة لتصريحات من هذا القبيل. ومن يسعى لبناء دولة ينبغي أن يكون على الدوام حذرا للغاية في الهواجس والوساوس، دع عنك في الكلام والعبارة. وان يكون متحررا تماما من ثقل المفاهيم المبشِّرة بالحرب الأهلية. وهو تحرر يفترض الارتقاء من مقارنات السياسة المبتذلة والأحداث التاريخية القديمة والمعاصرة إلى آفاق المصالح الواقعية والعقلانية الوطنية العامة. وذلك لأن «كردستان» ليس كوسوفو، والعراق ليس يوغسلافيا، والشرق الأوسط ليس وسط أوريا.

إننا نعثر في الأفكار المبشِّرة بالحرب الأهلية، التي تقدم وقت الضرورة على أنها تحذيرا منها!! هو الوجه الآخر للانحدار والانحطاط العرقي للحركات القومية الكردية. مع ما يترتب عليه من نفسية الابتزاز والحصول على غنيمة. وبالتالي الاضمحلال الفعلي للفكرة الوطنية العراقية فيها.

طبعا أن هذا الانحدار ليس معزولا عن مكونه الذاتي القائم في ضعف التكامل القومي للأكراد. فالأكراد معاشر وأقوام وليس قومية، إضافة إلى غياب أو انعدام الدولة وتاريخها الثقافي المستقل. بمعنى عدم وجود قومية دولتية لها تاريخها الخاص المؤثر والفعال في بلورة تقاليد سياسية وثقافية مستقلة وطويلة الأمد على المستوى الإقليمي. وهو ضعف جلي على خلفية كون الأكراد هم من سكان المنطقة ولهم جذور متداخلة مع الفرس والأتراك وقواسم دينية ولحد ما ثقافية مع العرب. ووجد هذا الضعف انعكاسه أيضا في البنية الاجتماعية القبلية والجهوية الراسخة بما في ذلك في الوعي القومي والسياسي المعاصر. وهو ضعف حصل على امتداده في انتشار التجزئة السياسية للأكراد في دول عدة من جهة، وتجذر التجزئة الذاتية في «منظومات» مغلقة من جهة أخرى. مما أدى بدوره إلى بلورة أغلب عناصر الاستلاب الثقافي المميز للحركات القومية الكردية الحالية تجاه ارثهم المشترك مع الفرس والأتراك والعرب. وهو نقص متجذر بصورة عميقة في الوعي القومي السياسي الكردي بهيئة عناصر عرقية تستحيل معها الفكرة الثقافية للاندماج السياسي، أو الفكرة السياسية للاندماج الثقافي. وفي هذا تكمن عناصر الخلل في الفكرة الوطنية الكردية تجاه العراق.

حيث تكشف تجربة ما بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية عن تحجر وتخلف سياسي هائل للحركة القومية الكردية تجاه الفكرة الوطنية العراقية. بمعنى السير في اتجاه معاكس لمنطق الدولة العصرية وآفاق الاندماج السياسي الثقافي في العراق. ومن خلاله تقديم نموذج يمكنه أن يشكل ضمانة تكامل المنطقة والأكراد. ويستطيع العراق انجاز هذه المهمة في ظل ظروفه الحالية وآفاق تطوره الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إلا أن السائد في أعماق الحركة القومية الكردية، كما تكشف عنه مجرى الأحداث السياسية وطبيعة مراوغتها بعد الثامن من نيسان عام 2003 وحتى اليوم (2019)، إلى بقاء بل وتعمق وترسخ ضعفها البنيوي، الذي لم تستطيع التحرر منه. بمعنى أننا نقف أمام نفس «السياسة» المميزة للحركات القومية الكردية في مراحل ضعف الدولة واضطرابها الداخلي. ولا يعني ذلك في ظروف العراق الحالية سوى المساهمة الفعالة في عرقلة إمكانية إرساء أسس الديمقراطية الاجتماعية والشرعية. إذ لا معنى لأساليب الابتزاز والسرقة والغنيمة السائدة في سلوك ونفسية الحركات القومية الكردية في العراق غير ذلك. وهي نفسية تعكس مستوى التطور الاجتماعي وتقاليد "الاغوات" المتخلفة والعائلات القبلية والنعرة العشائرية. كما تعكس ضعف وتخلف البنية الاجتماعية والسياسية للحركة القومية الكردية عموما. ويجعل هذا الواقع منها عبئا ثقيلا على العراق وخطرا جديا على آفاق تطوره الحر. فإذا كان الجانب الخاص بالحركة القومية الكردية هو جزء من ذاتها "القومية"، ومن ثم تتحمل تبعات ما تقوم به، فإن بقاءها في العراق يجعل منها طرفا في صراعاته الداخلية. ومن ثم نقل اغلب عناصر تخلفها القومي إلى ساحة الصراع السياسي العراقي.

وهو واقع يجعل من المشروع العرقي الكردي في العراق مشروعا تخريبيا بالنسبة لبناء الهوية الوطنية العراقية. وهي نتيجة مرتبط بنفسية وفعالية «الأقوام الصغيرة» التي لم تندمج في كينونة الدولة وثقافة الأمة الكبرى، والتي عادة ما تكشف عن نفسها زمن الانقلابات الحادة وضعف المركزية. ذلك يعني أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن تفرزه الحركة القومية الكردية الحالية في ظروف العراق المعاصرة هو نفسية العرق، وذهنية الانفصال، وأيديولوجية الانعزال. وهي نفسية تخريبية بالمعنى السياسي والاجتماعي والقانوني، برزت وتعمقت وترسخت وتوسعت بعد انهيار الدكتاتورية الصدامية. فمن الناحية المنطقية كان ذلك يفترض الاشتراك الاجتماعي الفعال من جانب الأكراد بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية، إلا أننا عوضا عن ذلك نرى استفحال نفسية الغنية والاستحواذ والتقوقع. بحيث تحول العراق بالنسبة لها إلى مجرد بقرة حلوب، لعل «مطالب» الحركات القومية الكردية الحالية منذ انتخابات 2005  وحتى اليوم دليل قاطع عليها، أنها مجرد «كركوك + مناطق جغرافية + مناصفة الخزينة + زائد تعويضات + ميليشيات مدفوعة الأجر + قرار انعزالي بكل ما يمس فكرة سيادة الدولة»!!! وهي مطالب أما سخيفة أو مجافية لأبسط مقومات الرؤية العقلانية والواقعية. بل أخذنا نسمع من بعض القيادات الكردية كلاما عن فضيلة ومنة بقاءهم في العراق على العراق! وهي حالة تكشف عما بلورته الثقافة الاسلامية قبل اكثر من الف عام في مجرى تحديدها لخصوصيات الاقوام والأمم، عندما حددت خصوصية الأكراد بعبارة "أهل البلادة والغباء". وهي حالة مستمرة لحد الان. والتغير الجزئي فيها هو "تطوير" ذهنية المكر. والماكر بالضرورة ليس ذكيا!

ومن الممكن العثور على هذه المفارقة في مختلف الصور والممارسات والنماذج، مثل أن نرى رئيسا كرديا للعراق ووزراء أكراد في الحكومة المنتخبة من بين الحزبين السياسيين القوميين «الحليفين»، وفي نفس الوقت يعملان على تنظيم «مظاهرة جماهيرية» في أربيل والسليمانية ودهوك تدعو للاستقلال عن العراق!! وهي «مفارقة» يمكن فهمها بمعايير الرؤية السائدة بين الأحزاب السياسية في العراق الحالي، التي لا ترى في السياسة أكثر من قواعد متنوعة للاحتيال والمراوغة والحصول على مكاسب وما شابه ذلك. بمعنى أنها لا ترى في السياسة علما مهمته بناء الدولة. وإذا كان هذا النمط من السياسة هو القائم وراء مظاهرات الدعوة للانفصال في ظل الظروف الحالية للعراق، وفي ظل هذا المستوى من مشاركة القوى القومية الكردية في السلطة، وقبيل إعلان «الدستور الدائم»، فانه أمر يشير إلى قضايا أكثر تعقيدا وعمقا مما يبدو للوهلة الأولى. بمعنى أن من الضروري البحث عنها في نوعية ونمط الذهنية السياسية والأيديولوجية للحركات القومية الكردية الحالية في موقفها من الفكرة الوطنية العراقية. وهي نوعية تكشف عنها ما يمكن دعوته بتناقض الهمّ العرقي والعراقي في الخطاب القومي الكردي.

إن الخطاب السياسي للأفراد والجماعات والأحزاب والدول هو المؤشر الظاهري لحقيقة ما تستبطنه. بمعنى إننا نستطيع العثور فيه على ما تريد قوله أو إيصاله أو الإفصاح عنه. وهو أمر طبيعي أيضا بوصفه الصيغة المناسبة لإبلاغ أبعاد «الرسالة» السياسية وأهدافها المعلنة والمستترة. وتعبر هذه الحالة عن مستوى ارتقاء الدعاية والممارسة السياسية التي تجعل من الكلمة أداة فعالة في الصراع السياسي. وعندما نطبق ذلك على أوضاع الحياة السياسية في ظروف العراق الآنية، فإننا نقف أمام حالة مزرية من تدني الخطاب السياسي تعكس بدورها انحطاط التقاليد السياسية بشكل عام والثقافة السياسية بشكل خاص. إضافة إلى تقليدية الأحزاب السياسية بالمعنى الفكري والأيديولوجي والاجتماعي.

وهو تدن له مستواه الخاص والمتميز في الحركات القومية الكردية في العراق. حيث نعثر فيه على تجزئة واضحة للفكرة القومية الجزئية (الكردية) والوطنية العامة (العراقية) تصل حد الاختلاف والصراع والتضاد أحيانا. والسائد فيه هو خلوه وفراغه من الهمّ الوطني العراقي العام. ومن الممكن فهم هذا الفراغ ضمن المسار العام الذي تعرض له العراق والدولة بعد «عاصفة الصحراء». إلا انه تعرض لتحول وتغير جديد في مجرى الانقلاب العاصف في حياة العراق السياسية، وما استتبعه من «رجوع القوى الكردية» إلى «أحضان» العراق بوصفهم قوة منظمة لها مشروعها الخاص.

ففقدان الهمّ الوطني العراقي العام، الذي كان أيضا نتاجا لسياسية الدولة المركزية، حالما يتحول إلى طرف في الصراع السياسي، فإنه لا يمكنه العمل بمعايير «الاعتدال والبراجماتيكية»، أي يصعب عليه العمل بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. بل عادة ما نراه يخضع لضغوط مقدمات إيديولوجية. وليس هناك من مقدمات أيديولوجية للحركات القومية الكردية تتعدى مضمون المشاريع الكردية و«الكردستانية». وهو أمر بدأت ملامحه تتضح بعد كل حركة «إلى الأمام» في أوضاع العراق العامة.(يتبع....).

***

ا. ميثم الجنانبي

 

 

في المثقف اليوم