أقلام حرة

الحجّاجية تحكمنا!!

صادق السامرائينسبة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي الذي حكم العراق بالقوة والبطش الشديدين.

وهي عقدة سياسية نفسية كامنة في دياجير اللاوعي، وتؤثر في السلوك السياسي والإجتماعي على مختلف المستويات.

فالحجاجية عقدة إستبدادية متأصلة فينا، فلا يوجد شعب في هذه الأرض يستند على ذمّه في وصفه.

فترى الكثيرين منا ما أن يغضبوا حتى يصرخوا بوجهك لقد صدق الحجاج عندما قال:

 " يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق" .

وأحتار كثيرا أمام هؤلاء، وكلما فكرت في الموضوع أجدني أمام حالة سلوكية غريبة ولا واعية.

فنحن لا نستحضر كلمات الفخر بنا كعراقيين، ونميل إلى كلمات ذمنا والتقليل من قيمتنا ودورنا في الحياة والحضارة، ونسعى أيضا وراء مَن يفعل ذلك ويؤسسه في حياتنا، ونتعجب من الفخر بنا بل وننظر إليه بعين الريبة والشك المريض.

وكل منا لا يريد أن يرى ما حوله وغيره بل يكرس رؤيته لذاته المتصحرة ونفسه الظلماء، التي لا يسمح للضوء أن يطهرها من خفافيش الرؤى وعظايا السوء والبغضاء والبهتان الرجيم.

وننسى أن الحجاج بعد أن فعل ما فعله في المدينة جاء لكي يفرض سيطرته على العراق، ويجعله مطيعا للخليفة عبد الملك بن مروان وليمسكه من عنقه، وهو يحمل سيفا يقطر دما وقلبا من نار وحديد.

وننسى أنه كان رجل سيطرة ونفوذ وإستبداد وطغيان شديد، أرعب الجبال وأطعم العلقم للعباد.

 ويبدو أن الحجاج القائد السياسي والعسكري الشديد القسوة والخطيب المفوه قد خبر نوازع النفس الأمارة بالسوء، وتفاعل معها بأشد ما تكون عليه القوة والبطش، وحسب كل الناس وبلا إستثناء يعبرون عن رغبات تلك النفس، إلا من أطاعه وأذعن لسلطة خليفته.

وربما بسبب خبرته في السلوك البشري وثقافته إبتكر ثلاثية السيطرة على الشعوب والمجتمعات، والتي أصبحت من بعده أحد أركان فرض السيطرة والسيادة على أي بلد في الأرض وفقا لمنطق الإمبراطوريات.

فهو الذي ساهم بقوة وفعالية بتأسيس الدولة الأموية الواسعة القوية، بسيفه ومفاهيمه السياسية وأساليبه القاسية المعقدة.

ويظهر أنه هو الذي وضع سياسة (الشقاق) (فرق تسد)، والتي أصبحت نهجا إمبراطوريا للسيطرة على الشعوب وعلى مدى القرون من بعده.

ولم يتمكن أحد عبر التأريخ من السيطرة على العراقيين وحكمهم بهذه القدرة والتمكن مثلما فعل الحجاج لمدة عشرين عاما، إذ لم يتمكن أحد من قبله من شق صفوفهم وتنمية النفاق والشك الخوف بينهم.

فهو الذي قال للعراقيين أنتم رغما على أنوفكم أهل شقاق ونفاق ومساوئ أخلاق.

وهو الذي تفكّر وبحث كثيرا في أهم الأدوات التي تمكنه منهم، وقد تفحّص التأريخ وأدرك أن ما يغيب عن كل القوى السالفة، أنها تعاملت مع العراقيين كشعب واحد فخسرت وانهزمت على أرضه لأن الوحدة قوة فولاذية لا يمكن هزيمتها.

ويبدو أنه قد إكتشف أن الأسلوب الأمثل للسيطرة على العراقيين يكون بتمزيق وحدتهم، وذلك بالشقاق والنفاق وإشاعة الخوف أو فرضه عليهم وبينهم.

أي أن يشقهم ويجعلهم منشغلين ببعضهم البعض، وأن يشيع النفاق بينهم فيضعفهم وبذلك يتمكن منهم ويأمن من نواياهم وشرورهم وهذا ما فعله، بأسلوب الخبير بالسلوك السياسي والقيادة والإنصياع الجمعي لإرادته.

فكان الشقاق والنفاق أسلوبه في الحكم، لقد شق الحجاج العراقيين وأشاع النفاق وشجعه وأجزل العطاء للمنافقين.

ولكي يكون النفاق متسيّدا فلا بد من تحقيق الخوف والرعب في القلوب ليجد النفاق له موطنا، ويحقق نتائجه المرجوة، فأول ما قاله:

 "أما والله فإني أحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله. والله يا أهل العراق، إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها. والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى..." .

وهذه دعوة قوية ومرعبة، مشحونة بالتهديد والوعيد لبث الخوف بين الناس.

وفي خطوته الأخرى دفع إلى النفاق لكي يؤسس في قلوب الناس بأنهم منافقين، وأن عليهم أن لا يثقوا ببعضهم البعض، وهم سيصدقون ذلك لأنهم في حالة خوف ولا يمكنهم التعبير عما فيهم، وإستخدم كلمة الشقاق لنشر البغضاء والكراهية بين العراقيين، وبذلك تمكن منهم وساقهم إلى ما يريد برضاهم أو بعدمه، لأنه قد مزق صفوفهم وشككهم ببعضهم وأرعبهم، وبهذا إستتب أمره وتفرغ لأعداء الدولة الأموية ولفتوحاته وغنائمه.

ومعنى رؤيته وأسلوبه السياسي، أن أشقكم وأنشر النفاق بينكم وأجعلكم تصدقون ذلك بأنفسكم.

ومن هنا فأن الحجاج قد إستخدم ثلاثية قاسية في حكمه للعراق، وهي التخويف والشقاق والنفاق.

ومنذ الحجاج وإلى يومنا هذا، تكررت هذه الثلاثية في أساليب حكم العراق، فكل نظام حكم لبلاد الرافدين يشهر سيف التخويف ويشيع النفاق ويشق الصفوف، لكي يسيطر على البلد الذي من الصعب جدا قيادته دون توفير الأسباب اللازمة لإنشغال أهله ببعضهم البعض.

وهكذا يكون مبدأ حكم العراق وعلى مدى العصور هو أن أشغلوا الناس ببعضهم لكي تتمكنوا منهم.

ويكون ذلك بتجويعهم وشق صفوفهم وإشاعة النفاق وتشجيعه بينهم بما يدفع إلى حالة الشك القصوى فيضيع الأمان وترتعب الناس، وتنسى الحاكم وما يريد وهي في مرارة وجهد، ولا تحصل على ما تريد من أود اليوم الثقيل.

وقد إتخذ أسلوب الحكم سياسات متنوعة مع الأيام والعصور لكنها لم تخرج عن الفكرة العامة التي أسسها الحجاج، وبسبب ذلك لم يستتب الأمر السياسي في العراق، ولن يتحقق فيه نظام سياسي مستقر، لأن هذه الثلاثية يتم إستخدامها وإستثمارها من أجل تدعيم قوائم الكراسي.

وقد لا يكون الحاكم واعيا لهذه الثلاثية، لكنه يمارسها ويحقق وجوده من خلالها، وبسببها يصنع له أعداءً تقضي عليه وعلى نظامه مهما حسبه قويا.

ومن يقرأ التأريخ يدرك أن أي قوة جاءت للعراق وأغفلت إستخدام هذه الثلاثية إنهزمت، وأية قوة إستخدمتها تسيّدت وحققت ما تريد، وتركت العراقيين شذرا مذرا في محنة نكأ الجراح وتعقيد الويلات وصناعتها، حتى صار العراق من أكثر مواطن الأرض إنتاجا للمآسي والملمات، وإستلطاف الدموع والبكاء ومسيرات الأحزان الدامية.

ثلاثية الحجاج القاسية في الحكم قد إنغرزت في اللاوعي العراقي، وأسست لسلوكيات مريرة نعاني منها كل يوم ولا نعرف كيف نشفى منها.

فترانا على جميع المستويات نحمل سيف التخويف وبه نشق ونصنع مَن ينافق، وبهذا نحكم إضطرابا ونحبسه حتى ينفجر بوجوهنا ذات يوم.

وترانا نقول اليوم أيها العراقيون أنتم رغما عن وطنكم وماضيكم وأخوّتكم ودينكم وربكم ونبيكم وكتابكم وكل ما يوحدكم، أنتم كذا وكذا وكذا ولستم عراقيين، وهو ذات الأسلوب الحجاجي في الحكم والسيطرة على البلاد ولكن بأدواتنا المعاصرة .

ولا شتان ما بين اليوم والأمس .

إن الحجاجية داء فهل لهذا الداء دواء؟

إن وعي هذه العلة الحجاجية التي فعلت ما فعلت فينا، يساهم كثيرا في تغيير سلوكنا ونظرتنا إلى أنفسنا ومجتمعنا.

ولا بد لنا أن نهذب سلوكنا على ضوء وعينا ونظرتنا لسلبية هذه العقدة وتداعياتها في حياتنا.

ولنراقب أساليب التخويف وشق الصفوف وتشجيع النفاق، وأن نحاربها بصدق وثقة ووعي لكي نعود إلى حقيقتنا ونصنع مجتمعنا القوي السعيد.

 

د. صادق السامرائي

20\10\2007

.....................

*عدت للمقالة بعد أكثر من عقدٍ على كتابتها، وتساءلت هل صار في البلاد ألف حجاج وحجاج يقف بوجه المواطنين المطالبين بحقوقهم الإنسانية المشروعة؟!

 

في المثقف اليوم