أقلام حرة

غير أنها لغةٌ عجماء!

مجدي ابراهيمأثار مقال الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت أستاذ الفلسفة ورئيس جامعة القاهرة المنشور في الأهرام، الأسبوع الماضي، تحت عنوان: هل يمكن أن ننقل اللغة العربية نحو الحاضر؟

أقول إنّ المقال أثار عندي المهمّ ممّا كنتُ أفكر فيه، الأمر الذي دفعني - لاهتمامي باللغة عموماً - للتعليق عليه في حينه، وسأذكر تباعاً مثل هذا التعليق في نهاية المقال.

والدكتور محمد الخشت مشغولٌ على الدوام منذ أن كان مدرساً بقسم الفلسفة بآداب القاهرة بالفكرة العقلية الراقية، وقد عرفته في السّنة التمهيدية للماجستير ذكياً لمّاحاً ذا حضور وتألق، له سمت العلماء العاملين، مفكرٌ مجدّدٌ مجتهد، يكتب ويحقق ويُحلل وينقد ويُبين، ولا يكف عن طرح الأفكار الفلسفيّة الحيويّة، كثير القراءة والبحث والتنقيب، شغوف دوماً بتطوير العقل وتطبيق المقبول ممّا يراه صالحاً للتطبيق، فضلاً عن صفات شخصية مُميزة : أريحيّة عالية، وابتسامة دائمة لا تفارق مُحيّاه، وقبول وحضور، وخُلق رفيع وعلم غزير، ريثما تلقاه تقع محبته في قلبك من أول وهلة، وهو فضلٌ موهوبٌ ليس بالقليل.

النقطة الأولى التي يثيرها المقال تأتي في مستهل الأفكار الناقدة لوضع يُرجى له التغيير وهو ما أشار إليه بقوله :

"ربما يكون أحد أهم مظاهر طرق التفكير القديمة والمفاهيم اللاهوتية والتصورات السحريّة المسيطرة علينا، هو عجزنا الواضح عن تطوير وتنمية لغتنا العربية في أهم ثلاثة محاور، وهى: عمليات الإثراء المعجمي للغة، وعمليات التبسيط النحوي، وتنمية معاجم المصطلحات العلمية الحديثة وتضمينها المعاجم العامة". هى إذن مقدّمة افتتاحية نقديّة تقدح من أول وهلة في طرق التفكير القديمة التي لا تواكب تيار العصر، ولكون هذه الطرق التقليدية القديمة تتضمّن عناصر ثلاث بإزاء اللغة لم يعد من المقبول لمن يريد تطوير العقل العربي فضلاً عن تغييره من الأساس أن يسيغها ويستحسن لها من المزايا ما من شأنه أن يبقيها ناهضة أو خاملة في واقع مرهون بالتقدّم المفروض.

ثم إنه ليُقرن النقد بالتوصيف، فلا يكون التوصيف بمعزل عن النقد أبداً لأنه لو كان كذلك لانفصل السياق بعضه عن البعض الآخر، وكان الأمر مجرّد دعوى لا يقوم عليها دليل، لكن اتصال النقد بالتوصيف هنا إنمّا هو نقلة ذهنية تؤيد حركة العقل فيما يصيبه ويتوجّه إليه. يرى الخشت أنه : " عبر العقود الماضية انعقدت آلاف المؤتمرات لتطوير اللغة العربية، لكنها لم تبارح بعد لسان العرب لابن منظور، وألفية ابن مالك، والتعريفات للجرجاني، ومفاتيح العلوم للخوارزمي. واقتصرت تلك الجهود على الوقوف عند حدود الشرح والتبسيط، على طريقة القدماء. أمّا الدراسات الحديثة التي أجراها مجموعة من علمائنا، وبعض الجهود المعجمية، فإنها لم تتراكم تراكماً حقيقياً يتحوّل فيه (التغير الكمي)  إلى (تغير كيفي) يُطال استخدام اللغة ومعاجمها وقواعدها".

وهذه لفتة منهجيّة يقف عليها الدكتور الخشت ذات صلة بالنقد في إطار المآخذ والثغرات التي سبّبت جمود اللغة فينا، ففي حين أجرى المحدثون دراساتهم اللغويّة والمعجميّة فكانت دراسات توقفت عند الكم ولم تعن عنايتها البالغة بالكيف كيما يتمّ لها قناعة التطوير؛ يلاحظ أن جهود القدماء وإن كانت جهوداً مضنية غير أنها ما تجاوزت حدود الشرح والتبسيط، شأن عادة القدماء فيما كانوا يجهدون أنفسهم فيه.

ولم يكن الرأي الذي يراه الدكتور الخشت كسائر الآراء التي ترى في جمود اللغة العربية ما من شأنه أن يعرضّها للزوال ومن ثمّ الإهمال الذي لا مفرّ له، وإن كان يقطع بالقول إن :" اللغة العربية تجمّدت عند العصور القديمة، وتوقف نموها عند حدد جهود علمائها البارزين القدماء، ولم تتأثر تأثراً حقيقياً بجهود بعض العلماء المُحدثين".

غير أنه يُقارن بين ما يفعله الإنجليز والفرنسيون والصينيون والروس والألمان واليابانيون وغيرهم في قواميسهم المتطورة يوماً بعد يوم، وما نفعله نحن من جمود عند القديم بقواميسه الرائعة في عصورها القديمة، لكنها غير مواكبة لعصرنا بكل مفاهيمه ومنجزاته المعرفية.

من هذا المنطلق يناقش الدكتور الخشت خطورة جمود اللغة عندنا  مع المقارنة بينها وبين اللغات الأخرى؛ فلغتُنا ليست "مقدسة ولا إلهيّة، بل هى كائن حي ينمو ويتطور، أو هكذا يجب أن تكون.  أنظر كيف تجاوز الإنجليز لغة شكسبير ذلك الأديب العظيم والاستثنائي، ونحن لا نزال نتمسك بطريقة تعبير عتيقة ورثناها من القدماء! إنّ اللغة هى صورة الفكر، وجمود لغتنا بسببنا نحن، وليس بسبب طبيعة لغتنا ذاتها. وهذا يعكس جمود فكرنا، كما يعكس حجم خطأ أفكارنا عن اللغة.

نعم ! لم يكن العيب في لغتنا بمقدار ما هو عيب فينا نحن أبناء العربية، عيب في طريقة التفكير هى التي تجمد على القديم كما جاء في نص المقال :

"لقد نجح الإنجليز مثلاً في عمليات التبسيط النحوي عصراً بعد عصر، كما نجحوا في القيام بأكبر عمليات الإثراء المعجمي يوماً بعد يوم، ولذلك تجد لغتهم حافظت على تفوقها واستمراريتها في السيادة كلغة عالمية مشتركة بين دول وثقافات العالم. أما نحن فلا نزال نتغنى بأمجاد الماضي البعيد ونزهو بلغتنا في عصور ازدهارها في الماضي. وأتصور - هكذا يقول الدكتور الخشت -  أن القدماء لو عادوا فلن يكونوا سعداء بنا لأننا مجدناهم بالكلام الإنشائي والتقريظ المقدس، ولم نمجدهم بتطوير عملهم. إننا مثل الابن الذي ورث من أبيه ميراثاً فلم ينمّيه، وتركه كما هو يبني عليه الأسوار معتقداً أنه يحافظ عليه. وبعد زمن ظل هذا الميراث كما هو، لكن قيمته قلت وتراجعت بفعل التضخم. وما يحدث من الأبناء مع الميراث يحدث شيء مثله من الأبناء مع التراث. ويبدو أن عمليات التضخم بالمعنى الاقتصادي مع الأموال تطال أيضاً عمليات الفكر بمختلف أنواعها. ومن هنا كانت طريقة تفكيرنا في التراث بأنواعه، ومنه التراث اللغوي، هى إحدى أبرز أسباب عدم تطوير لغتنا".

قلتُ إنه لم يكن الرأي الذي يراه الخشت كسائر الآراء التي سبقته في قضية جمود اللغة، لا بل الأمر هنا يتصل بتغيير طريقة التفكير ولا يتصل بهدم اللغة وهدم القيم التي تقوم عليها.

ولقد شاعت قبل سنوات فريةٌ كاذبة تمثلت في  ثورة كاسدة ضد اللغة العربية شهدتها الصحف المصرية أراد من أراد للّغة أن تتوقف وتتجمّد ويُستبدل مكانها لهجات محليّة تافهة، كيما لا تجري العربية جريانها على الألسن والقلوب كما كانت تجرى سليقة من وفرة المطبوع وذوقاً من حصافة العربي، يوم مهدها وعنفوانها وقوتها وحيويتها من غير أن يصدّها عائق من طبع النفس أو سليقة الذوق والأداء، ومن غير أن يحجزها تغرير العجز والعيّ تحلّلاً من القواعد والأصول.

ولنلحظ أن مهد اللغة ثم تطورها وعنفوانها وقوتها وحيوتها هو عينه مهد الحضارة، ولا يكون أوج الحضارة إلا نفسه أوج اللغة، ثم تطورها وحيوتها وقوتها مستقرة بروح موصولة بقوة العروبة وحيويّة القوميّة العربيّة، والهويّة العربيّة، أجزاءً متفرقات من ينبوع القيم، لكن تجمعها كلية شاملة واحدة هى الحضارة العربية.

وليس من شك في أن اللغة بطبيعتها متجدّدة متطوّرة، فإنّ هذه الفرية الكاذبة لم تقم على أدنى أساس صحيح، ولكنها قامت يوم قامت بالزعم الباطل في محاولة خلع العرب من لسانهم الذي يدلُّ من أول وهلة على عروبتهم، وعلى كل ما تحمله مفاهيم العروبة من حضارة وهويّة وقوميّة، لا يمكن الفصل بينها بحال، ثم لتدخلهم في لسان آخر أعجمي، أو هو إلى العُجمة أقربُ منه إلى الفصاحة، فضلاً عن إحلال العاميّة التافهة مكان الفصحى.

عندي أن اللغة تيارٌ متصل سيّال يأخذ من التأصيل ويمدُّ قنوات التطوير. أمّا الاقتصار على التطوير وكفى بغير العناية التامة بالأصالة فهو ضرب من العُجمة التي لا تصلح لمجاراة التطوير نفسه فضلاً عن استقرارها في جهود المجدّدين.

وقد قيل بالزعم الباطل أيضاً إنّ اللغة العربية غير صالحة لمسايرة الحضارة الحديثة ولا التوجهات الحداثية، وأنها لا تتسع للتعبير عن العلوم الجديدة السريعة التقدّم بحكم حداثتها، وأنها قاصرة عن الوصف الدقيق والدلالة القريبة.

وهذا كله محض افتراء ساقط لا أساس له.

وإذا كان لسان حالهم يقول: إنّ لغة القرآن ثابتة كما الحجر لا تواكب تطورات العصر الحديث بكل ما فيه من كشوفات العلم واختراعات التجارب الجديدة وتطورات الزمن المتجدد على الدوام، فإنّ هذا القول يخالف تماماً أهم باب من أبواب اللغة وهو باب القياس، وعلى هذا الباب يقوم التجديد في اللغة لتطور من نفسها وبنفسها مع كل جديد، فتواجه الزمن ومستحدثات العلوم أكمل مواجهة، فلا حياة من ثمّ للغة بدون ابتكار ألفاظ جديدة. وهذا الابتكار علامةٌ دالةٌ على تجدّد اللغة العربية وهو ما سمّاه اللغويون "بالوضع"، وكانت أهم وسائله : الاشتقاق والقياس.

ومن المعلوم لدينا بالضرورة أن من أخص خصائص العربية أنها لغة اشتقاق تقوم على الوزن، والوزن هو أساس اللغة عندنا.

فلغتنا العربية لغة اشتقاق تقوم على الوزن - كما يقول الأستاذ العقاد في (اللغة الشاعرة)، بخلاف اللغات الأجنبية تقوم على النحت، ولا علاقة لها بالوزن على الإطلاق.

لا يُلاحظ في الكلمات الأجنبية إنها توضع على وزن معين، لكن هذا يُلاحظ في الكلمات العربية. وليس هناك كلمة واحدة في اللغات الأجنبية لها وزن، في حين كل كلمة في لغتنا العربية لها وزن معين : وزن الفعل، ووزن الفاعل، ووزن المفعول. فعل، يفعل، فعال، كلها أوزان يتغير بها المعنى من الفعل إلى الاسم، ومن الاسم إلى الصفة تبعاً للوزن.

ولا يظهر في تركيب اللغة شيء أظهر من أصالة الوزن فيها؛ فالمصادر فيها أوزان، والمشتقات أوزان، وأبواب الفعل أوزان، وقوام الاختلاف بين المعنى حركةٌ على حرف الكلمة تتبدل بها دلالة الفعل، بل يتبدَّل بها الفعل فيُحسب من الأسماء أو يحتفظ بدلالته على الحدَث حسب الوزن الذي ينتقل إليه.

هذه أصالة في موضع الوزن من المفردات والتراكيب لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى ولو صرفنا النظر عن أثر الإنشاد الفردي في تثبيت القافية واستقلال فن العروض عن فن الغناء في القصائد العربية.

ثم يأتي الاشتقاق فيلاحظ أنه أكسب اللغة مرونةً ومناعة في آن واحد، وهما علّة التطور والتجديد، فسمح لها الاشتقاق بخلق ألفاظ جديدة وحافظ على ثروتها وثرائها، وحماها من الزيغ والشطط. وقد ناقش مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ زمن بعيد في الفترة التي تولاها المرحوم الدكتور إبراهيم مدكور، أستاذ الفلسفة الإسلامية يومئذ، أصل الاشتقاق واختلافه بين اللغويين في القديم : هل هو المصدر أو الفعل؟ واستدل القدماء بين البصريين والكوفيين، كل على رأيه، وكان هذا الخلاف في الغالب خلافاً نظريّاً لا طائل تحته، وقد وضعت للاشتقاق قيود تضيّق آفاقه، وتحدّد ما يشتق منه وما لا يشتق.

وكان همُّ مجمع اللغة العربية أن ييسّر من أمره ويفك بعض قيوده، ويشتق ممّا لا يشتق منه، ويجعله في اختصار أداةً طيّعة في أيدي العلماء والأدباء، تمكّنهم من أن يجدوا الكلمات الملائمة لأداء ما يعنّ لهم من معان، وكلما نجحوا في الاشتقاق استغنوا عن العامي والأعجمي.

ولا شك تصبح لغتنا عجماء فيما لو فشل أبناؤها في استخدام الاشتقاق والقياس، وهما مناط التجديد والتطوير، واقتصروا فقط على العامي والأعجمي، وزعموا أنهم مجددون فيها بهذا الاقتصار.

ولما كانت العلاقة بين اللغة والفكر علاقة ديالكتيكية، كما يراها الدكتور الخشت، فقد وجب أن يكون التطوير فيها يشمل تغييراً لطريقة التفكير في طبيعة اللغة. ومن هنا تجئ ثورته ممثلة لتلك النظرة الشاملة صارخة بتوجّه نقدي مع المقارنة بين جمود لغتنا وتطور اللغات الأخرى، وهو ما يدعو إليه على الدوام ويحققه في مقالاته تحقيقاً عقلياً عملياً في آن . "لقد تطور العالم من حولنا تطوراً متسارعاً، وشهد طفرات معرفية وثورات علمية الواحدة تلو الأخرى، وصاحب ذلك تطور مذهل في اللغات التي تتحدث بها الحضارات التي مرت بهذا التطور، بل نشأت لغات مع مطلع العصور الحديثة لم تكون موجودة أصلاً، وتحولت من لهجات إلى لغات، مثل لغات دول أوربا: الألمانية والفرنسية والانجليزية وغيرها. والتطور لم يكن فقط من هذه اللهجات إلى لغات، بل التطور نفسه لحق هذه اللغات الناشئة نفسها بشكل متسارع ومطرد. أمّا الأغلبية عندنا من علماء اللغة، الأعرق في التاريخ، فلايزالون يحققون ويجترّون العلوم والمتون والشروح القديمة، ويقفون عند حدود مفرداتها ومصطلحاتها العلمية دون أي إثراء حقيقي لها، ودون مواكبة العلوم الحديثة، بل دون مواكبة للمفردات المستجدة التي تعبر عن مفاهيم جديدة لم تكن موجودة عند القدماء، ودون توظيف المناهج الحديثة توظيفاً شاملاً ينقل قواعد هذه اللغة نقلة حقيقية نحو الحاضر".

حقيقةً، لم يكن المقال الذي دبّجه يراع الدكتور محمد الخشت من الروعة وكفى بل هو مع روعته مقال هادف كسائر المقالات التي يكتبها قلمه هادفة ورائعة، يجئ في سياق متصل مع تطوير العقل ومع فكرة التطوير التطبيقية :

تنهض اللغة فينا ولا شك، وتنهض حياتها وفاعليتها على الأمم والشعوب، بمقدار نهضة الروح العربية نفسها، ولا شيء يعطي القدرة على حفظ اللغة العربية من التدهور، غير التدريب عليها بمعرفة أساليبها القديمة، وقوة التجديد بعد المعرفة على تلك الأساليب وتطورها من زمن إلى زمن، ومن عصر إلى عصر، ومحاولة الوقوف على أسرارها العربية في عيونها الأصيلة، واتصال الجديد دوماً بالقديم فيها، وحفر قنوات معرفية بين الأحقاب التاريخية المختلفة للوقوف على الروابط المشتركة بين طارق وتليد أو بين أصيل وجديد.

إن العيون التليدة في لغتنا العربية لهى مظهر تجليات اللغة فينا، والتعبير عن حقبها المتلاحقة في مواردها العربية التي كان أجدادنا يعيشون عليها في سالف الزمان ثم صرنا نحن ورثة الأجداد نعيش بروح غير الروح وفؤاد غير الفؤاد، إنما هو مسئوليتنا نحن قبل أن يكون مسؤولية أحد سوانا.

وكشف اللثام عن اتساق المعنى والقيمة والدلالة بين تلك العصور والأحقاب، وامتداد هذه القيم الفاعلة فينا كلها عبر الأزمنة المختلفة هو أيضاً تبعة مرهونُ قيامها بنا بمقدار تحملنا لها، والحفاظ عليها، واتصالنا بمصدرها، ووجوب القيام بتحمل تبعاتها مهما كانت الظروف مواتية أو معاكسة، ومهما كانت الأوضاع التي تجيء فيها تلك الظروف عاملة ناهضة أو خاملة ساقطة.

فلئن اختلفت لدينا طرائق العيش، وتطور الزمن بنا تطوراته المفروضة، فلا أقلَّ من أن نجعل من لغتنا العربية : مزية التوحُّد وفضيلة الاتصال المباشر بين الأبناء والأجداد، مادة حيوية فعالة تحفظ فينا الهويّة؛ ونحن إذْ ذَاك على وعي بإرادة اللغة فينا، شئنا ذلك أم أبينا، وعي تحدوه المعرفة بالأمل في الإصلاح على كل حال، وعلى أية حال.

ومن جانب آخر؛ إننا لنؤمن بقيم باقية فاعلة في لغتنا العربية؛ وأهمها في سياق البحث عن الجذور: تقدير الهويّة العربية، وتقدير الأمانة الفكرية والمعرفية، وتجنيد القرائح بمقتضاها في ساحة العمل الشريف للسعي إلى المثل العليا التي تتولاها وتقوم عليها وهى: مُثل التسامح، والسلام، وقبول الآخر المختلف، والعدل، والمساواة.

فلئن كانت فكرة الصهيونية لا تزال هى الفكرة الرائدة عند أصحابها، قائمة باقية تُدَعمُ كحركة عالمية؛ فإن المقابل لها هو فكرة القومية العربية: فكرتان تصطرعان عبر الزمن، لكننا مع شديد الأسف أهملنا من جانبنا كعرب فكرة القومية العربية؛ لتضيع مع هذا الإهمال هُويّتنا ضياعاً يكاد يكون تاماً. وقد كان من المنتظر لفكرة القومية العربية الانتصار والتقدم فيما لو كنا عليها محافظين وبها مستمسكين.

لقد كان بالإمكان الذي لا شك في الإيمان به: أن تصبح مع التطبيق والرعاية فكرةً حيةً متطورةً متجددةً هى نفسها الهوية العربية يريد أصحابها لها الحياة بإيمانهم بها وتمسكهم بما فيها من قيم باقية عاملة، ومن أمثلة عليا في إطار الصلة الوثيقة القائمة بين العربي والعربي من طريق اللغة؛ إذ كانت ولا تزال الرباط الأمثل الذي يحفظ الهوية ويُسلم العرب جميعاً من آفات التمزق والانقسام.

لم يبلغ الزمن قدر الستون عاماً بل يقل، يوم أن كانت أقلام المثقفين في العالم العربي تمجد في أصول القومية العربية، وتقارن بينها وبين القوميات الأخرى كما ظهرت في مطلعها الأول كقومية الروم وقومية الفرس. ولم يكن تمجيدهم لها صادراً إذْ ذَاكَ عن فرائض سياسية أو فروض اقتضتها أحوال العالم العربي يومئذ، بل عن قناعة إيمانية باتصال القومية العربية بمعدن الهوية الحضارية في الإسلام، وانبعاث الأولى من الثانية ضرورة، واعتمادها عليها، وتغذية وجودها بالقيم والمبادئ التي تتأسس عليها. ولم تزل تلك الحضارة فاعلة بالقيم الجديدة التي تغلبت على القيم التي كانت موجودة في حضارة الفرس والروم. إذْ ذَاَكَ سئم الناس غطرسة حكام الفرس وعنجهيتهم - تماماً كما نسأم اليوم غطرسة الدول الأوربية - وفساد الحياة في بلاد الروم، وانصراف رجال الدين إلى مجادلاتهم البيزنطية ومماحكاتهم النظرية التي أودتْ بهم إلى عقم التفكير وفساد المنطق المقبول وعدم جدوى المناقشات. أما ملايين الشعب في كلتا الدولتين فكانوا يساقون كالأغنام، ويعيشون معيشة أحط من حياة السوائم لا ينعم فيها الإنسان بحريته ولا بكرامته.

ثم جاءت القومية العربية في مواجهة القوميتين الروميّة والفارسية؛ لتقرر للفرد حرية الفكر والعقيدة، بشرط أن يكون مؤمناً بالله الواحد الأحد القهار، ومساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. وتقرر وَحْدَة العرب والمسلمين وتضم أشتاتهم المتفرقة في إطار من المبادئ والقيم التي تأسست عليها الحضارة الإسلامية والعربية إذْ ذاك.

ولم تكن اللغة العربية سوى قنطرة عبور الوعي الحضاري لتحقيق تلك القيم في ظل المثل العليا التي تدين لها بالولاء.

أعودُ فأقول: إنّ إيماننا بهذه الفكرة لينبعث ولا شك عندي من تقدير أصول القومية العربية من حيث كونها فلسفة حضارة لا من حيث كونها فكرة سياسية وكفى، ظهرت في فترة زمنية محدودة وظهر الاهتمام من نبلاء الزمن الماضي بها بل من حيث إنها ثمرة حضارة عربية إسلامية كان اللسان العربي أبرز عناصرها، وكان هو بالأساس لغة كتابها المقدس وقرآنها ودينها بمقدار ما كان في الوقت نفسه لغة علومها وآدابها وفنونها.

وليس يمكن الفصل مطلقاً في هذه الحضارة بين اللغة والدين ولا بين العلوم والفنون ولا بين الآداب التي تضمها جميعاً تلك الحضارة الإسلامية ولا تفرقها أو تجزّئها.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم