أقلام حرة

الطائفية المذهبية والعرقية - «مثلث» الانحطاط التاريخي

ميثم الجنابيالعراق نقد الواقع وتأسيس البدائل (19)

لقد حاولت البرهنة في المقال السابق، على أن الطائفية السياسية هي قاعدة الانحطاط السياسي والدولتي، كما أنها برمودا الموت المحتوم للبدائل العقلانية. الأمر الذي يجعل من الضروري رؤية خصوصيتها في الاتجاهات السياسية الكبرى السائدة في ظروف العراق الحالية، واقصد بذلك الاتجاه العربي وشقاق الطائفية السنية والشيعية، والاتجاه الكردي وتوليفة الرؤية العرقية بالطائفية السياسية. ولا تستطيع هذه الظاهرة الصمود طويلا بسبب ضعفها الذاتي على تقديم بدائل معقولة وفعالة. بمعنى أن الطائفية ليست قادرة، مهما كانت مقدماتها ومسوغاتها على مواجهة وحل الإشكاليات الكبرى التي تواجهها الدولة والأمة، كما أنها عاجزة عن صنع نسيج وطني عراقي، بوصفه المقدمة الضرورية لإنجاح مهمة التحول من تقاليد الاستبداد إلى نظام الحكومة الشرعية. لاسيما وأنها ليست مهمة سياسية فقط، بل واقتصادية واجتماعية وقومية ووطنية وروحية عامة. من هنا لا يمكن للقوى السياسية التي تحتمي بحماس الطائفية أن تصنع شيئا غير عوام قابلة للاشتعال في لهيب المعارك الهمجية مع ما يترتب عليه بالضرورة من تعميق للخراب الحالي. وبالتالي السقوط في الهاوية.

غير أن التطور السياسي يمكنه أن يجبر القوى السياسية المتآكلة بنفسية الطائفية على التخلي التدريجي عنها بسبب حدة الصراع الاجتماعي المقبل من جهة، وازدياد قيمة ومنهجية الوعي الوطني من جهة أخرى. وهي عملية ضرورية، بمعنى حتميتها الملازمة لظهور وتطور القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة التي تنشأ في ظل ظروف جديدة تماما عما كان عليه الأمر زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. كما أنها القوى التي تشكل في العقود القليلة القادمة مقدمة الانتقال الفعلي إلى الديمقراطية والشرعية.

غير أن هذه الفرضية تبقى من مكونات المستقبل. أما الآن فانه يعاني من وطأة أمراض الطائفية وأعراضها المتنوعة. وهي أعراض تعبر عن ظاهرة واحدة. أما اختلافها فيقوم في اختلاف تاريخ كل منها. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحديث عن طائفية عربية سنية وشيعية، وأخرى كردية عرقية. وحدود الاختلاف تتحدد بحدود الموقع والأهمية بالنسبة لمصير الدولة والأمة. بمعنى انه إذا كانت الطائفية الشيعية – السنية العربية هي محور الصراع وعليها يتوقف آفاق تطور العراق أو انحطاطه، فإن الطائفية العرقية الكردية (التي لا تخلو من أبعاد دينية أيضا) هي الصدى الملازم للأولى ولكن بمعايير الأقلية القومية والاطرافية السياسية.

فالطائفية السياسية الآخذة في التبلور والارتقاء إلى مصاف «الوعي الذاتي» لمختلف القوى السياسية، بما في ذلك القومية والليبرالية(!) هي دون شك الصيغة الأكثر تخلفا وانحطاطا للطائفية. وذلك لأنها لا تخلو من إدراك علني ومبطن لما تسعى إليه. ذلك يعني أنها ليست محكومة بنفسية الانتماء الغريزي والوعي العادي للعوام فحسب، بل وبوعي المكر العملي الملازم للرؤية السياسية الطائفية. فإذا كان الصراع الأولى والمتسم بقدر هائل من الدموية بعد سقوط الصدامية مختبئا تحت غشاء كثيف من السرية وعدم الوضوح، فانه اخذ يتبلور لاحقا تحت شعارات متنوعة ترفع كلمة المقاومة (الإسلامية والوطنية والعراقية والعربية) عنوانا لها. وهي مرحلة جرى نفيها لاحقا بظهور فكرة وشعار عدم تمثيل السنة أو إبعادهم عن المشاركة في إدارة شئون الدولة. وتحولها بعد ذلك إلى صيغ متنوعة ومختلفة عن «مرارة الإحساس» بهذا الواقع. وأخيرا ظهور مصطلح ممثلي السنّة على الصعيد المحلي والعراقي والعربي. وبهذا تكون ظاهرة الطائفية السياسية التي جرى حصرها في بداية الأمر بالتيارات الشيعية قد خطت نحو نهايتها «المنطقية». أو أنها قد كشفت عن أبعادها الفعلية الدفينة. وبغض النظر عن إعطاء الأولية لهذا الجانب أو ذاك، فان مما لا شك فيه، هو تحول الطائفية إلى مكون سياسي فاعل في الحياة العراقية العامة. وبهذا يكون العراق قد بلغ الحالة الفعلية للطائفية السياسية التي يشارك الجميع فيها، كل بمقدار انحطاطه! وهو انحطاط يستظهر تاريخ الطائفية العراقية. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى بروز الطائفية السياسية على أنها الحالة القصوى لظهور أعراضها الدفينة.

فالطائفية «المرفوضة» من جانب السلطة الصدامية البائدة وإتباعها العلنيين والمستترين، الذين كانوا يعلنون جهارا أمام الملأ عن «معاداتهم» للطائفية، أخذت تبرز إلى السطح بوصفها برنامجا ورؤية سياسية أكثر مما هي ردود فعل. وهو واقع يشير إلى فاعلية الطائفية بمعناها السياسي كما هو جلي في ظهور واستتباب اسم «المثلث السني» على لسان المعارضين والمؤيدين. وهو مثلث وهمي من حيث الانتماء العقائدي والمذهبي، لكنه فعلي من حيث الزمن السياسي والإداري للسلطة وأجهزتها القمعية على امتداد عقود طويلة.

طبعا ليس «للمثلث السني» بعدا جغرافيا أو بشريا في العراق. أما الأبعاد الثابتة فيه فهي أبعاد همجية بالمعنى السياسي والاجتماعي والوطني والقومي. وهي أبعاد تشير إلى انحطاط الدولة ومؤسساتها من الناحية العملية في جملة أساليب كانت تعمل لصالح استحكام السيطرة القمعية للدكتاتورية الصدامية التي أنتجت احد أقذر النماذج طائفية في تاريخ العراق ككل، أي كل ما فعل ويفعل الآن على تخريب العلاقات السياسية وتخريف الوعي الاجتماعي. وظهرت هذه الأبعاد بصورة ناتئة للمرة الأولى بعد ما يسمى بالانتفاضة الشعبانية في بداية تسعينيات القرن العشرين. حينذاك برزت وتبلورت للمرة الأولى بصريح العبارة مفاهيم مثل «محافظات الغدر والخيانة» و«محافظات الولاء والوفاء». واستتبعتها مفاهيم «الغوغاء» و«الأبطال». حيث تجسدت هنا للمرة الأولى في تاريخ العراق السياسي نفسية وذهنية الانتقام، التي ظهرت فيها بصورة لا تقبل الجدل معالم «المثلث الهمجي». ووجد ذلك انعكاسه في تخريب المدن والقرى والأرياف وتجفيف الأراضي والأنهار والاهوار وتوسيع كمية ونوعية المقابر الجماعية والتهجير والترحيل والتشريد والقتل والتعسف والإعدام والاستخفاف الكامل بكل القيم الوطنية والاجتماعية والأخلاقية. ولازمت هذه الممارسة تجزئة العراق جغرافيا وسياسيا وأخلاقيا. وهي تجزئة ليس لها مثيل في تاريخه، باستثناء المراحل الأولى من تاريخ الاستبداد الأموي، الذي كان يختار أقسى الطغاة وعتاة القتلة من اجل «فطم» «أوباش العراق» و«غوغاء السواد» و«أهل الشقاق والنفاق» من تراث الدفاع عن الحق والإخلاص للمبادئ المتسامية.

لقد كان «المثلث السني» هو «المثلث الأول» في مجرى خراب الدولة ومؤسساتها، الذي حول تاريخها إلى مجرد زمن الانتهاك السافر لأبسط مقومات الوحدة الوطنية وشرعية الوجود الاجتماعي لمكونات العراق الذاتية. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى هذا «المثلث الفريد» من نوعه على انه البداية الكبرى لأسلوب نقل التجزئة، التي ميزت علاقة الدولة والسلطة والمجتمع، إلى مصاف الجغرافيا السياسية، أي بداية صنع «المثلثات الهمجية» في الوعي والممارسة الاجتماعية بما في ذلك عند القوى السياسية المعارضة.

لقد جسد هذا «المثلث الهمجي» الأول بداية الهمجية السياسية، عبر مطابقته الجغرافيا مع السياسة، وسلوك السلطة مع القيم الأخلاقية. بينما كشفت وبرهنت الأحداث الفعلية في مجرى الحرب الأميركية على العراق وسقوط الدكتاتورية وما بعدها أيضا، بما في ذلك على لسان «العائلة المتسلطة» نفسها، من أن «الخيانة» كانت تجري بين صفوف الطغمة الحاكمة وعائلاتها وعشائرها وقبائلها. وهو أمر طبيعي، لأنها كانت في الواقع مصدر ومرتع وينبوع الخيانة الفعلية لحقيقة الهوية الوطنية للعراق ومصالحه الكبرى. أما محاولات مطابقة «المثلث السنّي» مع «مثلث المقاومة» فقد ظلت جزئية، بسبب طائفيتها الدفينة. وذلك لأنها لا يمكن أن تقنع الأغلبية (الشيعية). وهي مفارقة كانت تغذي الأبعاد الطائفية لا الوطنية العراقية. إضافة إلى ما فيها من استهزاء بالتاريخ والواقع والقيم. ولا تتعدى من حيث حوافزها الواعية وغير الواعية سوى الاستعادة السيئة لمطابقة الجغرافيا بالسياسة، والسلوك السياسي للبعض بالقيم الأخلاقية المثلى. بمعنى استعادة نفس صورة النموذج الصدامي المغروس في الوعي الاجتماعي للخواص والعوام، أي نفس طريقة ونموذج الدكتاتورية الصدامية.

إذ ليست هذه المطابقة في الواقع سوى الصيغة المبطنة للاتهام الباطل والتشكيك الطائفي بعروبة «الشيعة» ووطنيتهم، كما أنها الصيغة غير الواعية لاستعادة نفسية وذهنية التخلف والانحطاط المميزة لمرحلة القرون المظلمة من تاريخ العراق. فهي مطابقة لا تمثل في الواقع سوى الاستمرار الفعلي لزمن الهمجية. وذلك لان مضمون المقاومة ينبغي أن يجيب أولا وقبل كل شيء على أسئلة أساسية وهي مقاومة ضد من؟ ومع من؟ ولأجل من؟ وما هي غايتها؟ وما هي بدائلها الكبرى في مجال المشروع الوطني العام والقومي؟ بينما لم تتعد «المقاومة» ضد الاحتلال أكثر من انتهاك فعلي لإمكانية البدائل العقلانية في عراق ما بعد الصدامية. وذلك لان حقيقة المقاومة العراقية الكبرى تفترض تأسيس مقومات المجتمع المدني والديمقراطية السياسية والدولة الشرعية والثقافة العقلانية والإنسانية. وهي مقومات لا تعمل «المقاومة» في الواقع إلا على تهشيمها وتخريبها المادي والمعنوي. وينطبق هذا بالقدر ذاته على مواقفها القومية (العربية). فالموقف الحقيقي والضروري منها يفترض الارتقاء إلى مصاف القومية الثقافية وتأسيس حقيقة الفكرة القومية العربية بالشكل الذي يجعلها جامعة للكل العراقي، أو على الأقل مكونها الجوهري بالمعنى السياسي والثقافي والروحي. بينما لا يعني السعي لمطابقة «المقاومة» و«العروبة» و«المثلث السني» سوى الارتماء من جديد في طائفية سياسية خربة لا تعمل إلا على استعادة فجة للصدامية.

إضافة لذلك، أن إبراز طابع وخصوصية «المثلث السني» ضمن سياق مهمة الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية، لا يعني في الواقع سوى العمل على إخراج هذا «المثلث» من العراق ومن حقيقة الانتماء إليه. وهي نتيجة جرى استغلالها من قبل القوى الطائفية السياسية الأخرى «للانتقام» من عرب العراق السنّة قبل وبعد الانتخابات الأولى (المجلس الوطني الأول في منتصف 2005). بعبارة أخرى لا يعني البقاء ضمن «المثلث السنّي» والدفاع عنه سوى المساهمة بوعي أو دون وعي على الخروج من حقيقة الهوية الوطنية العراقية، ومن ثم الخروج أيضا على حقيقة القومية العربية والانتماء الإسلامي. وذلك لما في هذا «المثلث» من «نية غير صالحة» للمطابقة بين الإسلام والانتماء الجغرافي السياسي الطائفي.

إن العمل بمعايير «المثلث السنّي»، أي بمعايير الرؤية الهمجية لا يؤدي إلا إلى تعميق وغرس التجزئة الشاملة فيه. ولعل اخطر أنواع هذه التجزئة الآن هو إمكانية تجزئة العرب إلى طائفتين متناحرتين من خلال توليد «نقيضه» المباشر في «التشيع»، أو بصورة أدق نقيضه المكمل. ولا يؤدي هذا التناقض إلا إلى «تكامل» الانحطاط المادي والمعنوي للقومية العربية ومن ثم تدمير العراق وهويته الخاصة. إذ لا يعقل العراق بدون القومية العربية. وحالما يجري رفع خلافاتها إلى مصاف الطائفية المذهبية والسياسية، فإن ذلك يدل على انحطاطها إلى مستوى ما قبل الدولة. مع ما يترتب عليه من خروج على حقيقة القومية العربية. وإن دل هذا الفعل على شيء، فانه يدل على سيادة الأبعاد المزيفة في تمثيل فكرة القومية العربية من خلال إرجاعها إلى طائفية لا صلة جوهرية لها بالقومية والدين. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان الطائفية المتجسدة في «مثلث عربي سني» هي طائفية مزيفة، وأنها الوجه الآخر للطائفية الشيعية، أي للخروج عن حقيقة القومية العربية والوطنية العراقية.

إن حقيقة العراق تقوم في كونه ليس تجمع أعراق وطوائف، بل هوية ثقافية سياسية غير معقولة ولا مقبولة خارج وحدة مكوناته الرافدينية العربية الإسلامية. وشكلت هذه الوحدة من الناحية التاريخية والحضارية إحدى الذرى الثقافية لتطور الأمم. وبالتالي لا يعني الرجوع عنها إلى حضيض الطائفية أيا كان شكلها، سوى النكوص عن ماضي ومستقبل الكينونة التاريخية للعراق، ومن ثم الخروج عليه بكافة المعايير والمقاييس. وقد يكون هذا النكوص الأشد تخريبا لحقيقة الهوية الوطنية والقومية فيه. وسبب ذلك يقوم في أن نفسية وذهنية «المثلث السني» لا تؤدي في ظروفه الحالية والمستقبلية إلا إلى إعلاء أو أولوية الطائفة على المجتمع، والطائفية على الفكرة الوطنية. وتعادل هذه الظاهرة معنى الانتهاك الشامل لمضمون الهوية العراقية المتراكمة تاريخيا بوصفها هوية ثقافية سياسية.

وهو انتهاك تغذيه التيارات الشيعية السياسية الحالية بوعي أو بدون وعي. وهي تغذية لها تاريخها الذاتي. بمعنى أن أعراض الطائفية السياسية الشيعية هي الأخرى لها تاريخها الخاص. وقد لا يكون دقيقا الوصف القائل بظهور طائفية سياسية جديدة انطلاقا من انه لا جديد في الطائفية السياسية غير إعادة إنتاجها، إلا أن الواقع العراقي الجديد يكشف عن تحول نوعي بهذا الصدد. وذلك لان موازين القوى الطائفية قد تحولت بصورة جذرية بين ليلة وضحاها. فقد افقد هذا التحول الجميع صوابهم. لاسيما وان الطائفية من حيث كونها ظاهرة مغلقة هي صانعة الجنون السياسي، ومخربة الروح الأخلاقي، ومدمرة الوحدة الاجتماعية. وعموما هي التركيبة المتحجرة لتراكم الانحطاط المتنوع بشكل عام والسياسي منه بشكل خاص.

وبغض النظر عن كل التوصيفات الممكنة لطبيعة الطائفية السياسية في العراق المعاصر، فان مما لا شك فيه هو كونها ظاهرة لها تاريخها الخاص. وهو تاريخ يتعارض مع ابسط مقومات تكونه الثقافي. وذلك لان الطائفية السياسية فيه ليست محاولة للبحث عن تناسب أو «اعتدال» يحفظ إمكانية العيش المشترك، كما هو الحال بالنسبة للمناطق التي تتعايش فيها «نسب» من الطوائف. بل يمكننا توكيد العكس، بمعنى أنها الصيغة التي تفتعل وتصنع نسبا لا ضرورة لها من حيث الجوهر. وهو الأمر الذي جعل منها «منظومة» الخراب وليس «العيش المشترك». من هنا تحول الطائفية السياسية الآخذة في التراكم العملي والسياسي والإيديولوجي في ظروفه الحالية إلى القوة الفاعلة في توسيع «منظومة» الانحطاط المادي والمعنوي الشامل. بمعنى رؤيتنا لكيفية تحولها إلى أسلوب إدارة الصراع الاجتماعي والسياسي وشئون الدولة والحياة، كما نراه في تنميط المؤسسات على أسس طائفية وعرقية. وتعكس هذه الممارسة في الواقع ما أسميته بتاريخ المرض الطائفي. وهو ظهور «طبيعي» لأنه مجرد استظهار فعلي لمكوناتها الدفينة. من هنا تحول ردود الفعل إلى منهج، والمنهج إلى إيديولوجية، والايدولوجيا إلى أسلوب لترتيب بنية الدولة والسلطات فيها. وأكثر من يمثل هذا التيار الآن قيادات الحركات الشيعية السياسية. وتعبر هذه القيادات في سلوكها هذا أما عن اغترابها عن حقيقة العروبة والعراقية، أي القومية والوطنية ، أو غربتها عنهما. والنتيجة واحدة، ألا وهي الوقوف ضد تيار إعادة بناء الهوية الوطنية العراقية، ومن ثم الارتماء في أحضان الطائفية السياسية والعرقية اللتين لا علاقة تاريخية وثقافية لهما بحقيقة الكينونة العراقية.

طبعا أن لهذه الممارسة، من حيث هي رد فعل، تاريخها الخاص في واقع ابتعاد العراق عن كينونته الوطنية والثقافية التي غرستها وعمقتها قرون الانحطاط التي رافقت سيطرة السلطنة العثمانية. فقد اعتمد الأتراك العثمانيون على «العرب السنة» في العسكر، بينما جرى محاربة «الشيعة» واضطهادهم. ولم يكن ذلك معزولا عن مستوى وطبيعة الصراع القائم آنذاك بين تركيا «السنية» وإيران «الشيعية». ووجدت هذه الحالة المتراكمة من الانحطاط استمرارها في إفراغ التاريخ العراقي المعاصر من إمكانية التراكم في بنية سياسية وطنية عامة. بمعنى استمرار الصراع الخفي بين مكونات العرب العراقيين، الذي تجسد في بنية متخلفة من حيث مكوناتها الاجتماعية ومواقفها السياسية بعد انقلاب 1963. وشكل هذا الانقلاب خطوة إلى الوراء مقارنة بانقلاب الرابع عشر من تموز 1958 واستمرارا له في نفس الوقت. بمعنى مسارهما في تخريب الكم المتراكم من تجربة البناء الشرعي للدولة ومؤسساتها. إذ نقف هنا للمرة الأولى على عبارة صريحة وسلوك عملي يناسبها في الموقف من تجزئة الدولة والعرب على أسس طائفية. ومفارقة الظاهرة تقوم في أن الحركة القومية العربية سواء بهيئة حزب البعث أو من يقاربه في الفكرة قد تحولوا إلى القوة الأكثر «فاعلية» و«إصرارا» في تخريب الكينونة العربية للعراق من خلال إعادة العمل بنفس سياسة وممارسات الأتراك العثمانيين في الموقف من «شيعة العراق»، بل وجعلها «منظومة» سياسية لها مفاهيمها الأيديولوجية. وجسدت هذه الممارسة بصورة نموذجية نفسية الطائفية السياسية من خلال جعل «السنة العرب» لحالهم ممثلي «القومية العربية». ووجدت هذه النفسية والممارسة تعبيرها «الخالص» في المرحلة التوتاليتارية والدكتاتورية، التي حاولت أن تستثني شيعة العراق من العرب. غير أن هذه الممارسة والنفسية لا تمت للعروبة والعراقية بصلة، انطلاقا مما ادعوه بالهوية الثقافية للقومية العربية بشكل عام ونموذج تجليها الخاص في الهوية العراقية.(يتبع.....).

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم