أقلام حرة

البشرية تطفئ أنوارها!!

صادق السامرائيمن الملاحظات المتكررة في مسيرة البشرية أنها تطفئ أنوارها المعرفية بأنواعها، إبتداءً من أرسطو وما قبله وما بعده وحتى يومنا المعاصر.

وفي مجتمعاتنا عانى العلماء والمتنورون من محن قاسية ونهايات مروعة، بسبب آرائهم وعلومهم ومعارفهم الواسعة.

أقول هذا وأنا أتأمل محنة إبن جرير الطبري الذي نقرأ له ونذكره بتفاسيره وشروحاته ومؤرخاته الثرية، وننسى أنه تعرض لمحنة مروعة أدّت به إلى الموت بقسوة، وإذلال وهو في منتصف العقد التاسع من العمر، حيث تم قذفه بالحجارة التي أغلقت باب داره ومُنع من الخروج والإتصال بالناس حتى مات جوعا وقهرا وعطشا.

ومن أمثاله العديد من العلماء وجهابذة الفكر الذين تم القضاء عليهم بآليات متوحشة عدوانية إنتقامية لئيمة، ساهم بها عامة الناس المنوَّمين والمتحركين كالقطيع تحت إمرة دجال مخادع ومضلل، يدّعي ما يدعيه من المقامات والقدرات والتواصي بالدين والإيمان، وما هو إلا من ذوي العاهات النفسية والسلوكية، ولديه القدرة على مخاطبة أمّارة السوء الكامنة بالبشر الذي يتبعه ويدين بالولاء له.

وهذه الملاحظة المتكررة تشير إلى علة مطمورة في أعماق البشر، ويمكن إيقاظها وتوظيفها لتحقيق المشاريع الرغبوية التي قد لا تخطر على بال.

أي أن البشر يكنز ميلا للعدوان ولا يعنيه مقام المُعتدى عليه، بل أن العدوانية تتناسب طرديا مع مقام الهدف المُعتدى عليه، وتزداد شراستها كلما كان الشخص الُمُستهدف صاحب إنجازات وقوة مهما كان نوعها.

ولهذا يتعرض البارزون والمشهورون إلى أبشع أنواع الإعتداء والإنتقام، والأمثلة عديدة ولا تحصى، ويمكن للقارئ أن يستحضر ما يريد منها.

ولو درسنا حياة الذين نفخر بإنجازاتهم ونتباهى، سنكتشف أنهم قد كابدوا المحن والويلات من قبل مجتمعاتهم، ومن الذين يتطفلون على الكراسي والدين.

ومن الصعب تفسير هذا السلوك المأساوي الإمتهاني الذي تكرره البشرية في غرب الدينا وشرقها.

فالبشرية تبخس حق أفذاذها  في حياتهم وتمجّدهم بعد مماتهم، وهم الذين يمضون حياتهم في شقاء وعناء وقلق ومجالدة وتحدي،  وإصرار مطلق على التعبير عن أفكارهم ورؤاهم ولا يعنيهم ما يلحق بهم من الضرر.

وبهؤلاء تتطور البشرية، وبهم وصلت إلى ما هي عليه اليوم، لكن نكران دورهم هو السائد، وما يكون قائما بسبب إبداعاتهم يفقد قيمته ويغيّبهم.

فعلى سبيل المثال، نحن نتمتع بالمخترعات وما أوجدته عقول الآلاف من المبدعين والمخترعين، لكننا لا نعرف أسماءهم ونجهلهم تماما، بينما لا نستغني عما قدموه لنا من إنجازات متميزة.

ولا يمكن لبشر معاصر أن يتخيل عناء جهابذة العلوم والمعارف ومكابداتهم في تلك الحقب الزمنية التي عاشوها، وكل ما فيها صعب وعسير لكنهم إنتصروا على الحواجز والعقبات، وقدموا ما هو أصيل ورائع ومثير، فاكتشفوا واخترعوا، وأرغموا البشرية العمياء على الخطو إلى أنوار العصور المنورة بمعارفهم الوهاجة.

ولا بد من ذكر هذه القصة التي حصلت معي ذات يوم في القرن الماضي، عندما ترشحت وزميلي للتدريب مع أحد العلماء الأفذاذ المشاهير، وفي اليوم المقرر لبدء التدريب ذهبت معه في سيارته، وعندما دخلنا المكان الذي سنتدرب فيه، طالعتنا صورة زيتية كبيرة لذلك العالم.

فثارت ثائرة زميلي وإستشاط غضبا وراح يدمدم بكلمات سيئة، وهو يقول: " لن أتدرب مع هذا الذي يحسب نفسه شيئا ما، ويضع صورة لنفسه بهذا الحجم على الحائط"!!

وأضاف: لن أتدرب ....!!

وترك المكان وطلب مني أن أغادر معه، فرفضت وقلت سأجد وسيلة للعودة إلى المستشفى، واحترت في موقفه آنذاك، فذلك العالم له إسهاماته الكبرى في ميادين الإختصاص، وألفت عن نظرياته مئات الكتب وعشرات الآلاف من المقالات، لكنه حسبه لا شيئ ولا قيمة له لأنه قد وضع صورة كبيرة له عند مدخل مكتبه.

سلوك زميلي يفسر أننا قد ننقض على البارزين من هفوة بسيطة أو رأي ما نراه كما نرى ونتصور، فنلغي إنجازاتهم وإسهاماتهم.

وهذا ما حصل للعديد من العلماء في مسيرة البشرية على مر العصور.

فلماذا نعادي أنوار الحياة؟!!

 

د. صادق السامرائي

18\7\2019

 

في المثقف اليوم