أقلام حرة

الذوبان في العراق!!

صادق السامرائيالمقالة مكتوبة في العقد الماضي، وأجدها ذات قيمة إدراكية وتطلعات حضارية عنوانها " أريد وطنا"!!

تنساب الأيام والأحلام والتطلعات والأفكار والذكريات على أديم خارطة العراق، من شماله الشامخ الزاهي بالروعة والجمال إلى جنوبه الفياض بالمحبة والمرح والبهجة والطرب، المعجون بالتنهدات الإنسانية الصادقة.

وتجوب الروح الشوارع والأزقة والجبال والوديان والأهوار والأنهار والكهوف والقرى والمدن والآثار، وتتغلغل في بساتين النخيل والرمان والبرتقال والنارنج، وتجالس التأريخ وتعبق من عطر الخيال الحضاري الفواح.

وأمضي في جولة الذوبان في بدن العراق.

فأرى حضارات سومر وأكد وآشور وبابل وما قبلها وما بعدها، وأقف متسمرا أمام مسلة حمورابي ومتعجبا من ذلك الرقي الإنساني الذي فتح أبواب صيرورة الإرتقاء الأرضي، ورفع رايات التقدم والتعبير عن إرادة الوجود الحي فوق التراب.

وأخطو على جوانب زقورة بابل وأرنو إلى جنائنها المعلقة وأصيخ السمع لأناشيد القوة والعزة والمحبة والأمل الصداح.

وتأخذني خطواتي إلى بابل وشوارعها وسوامقها ومسارحها، وأجد الناس في تفاعل إبداعي وعطاء فكري وثقافي متوهج، يرسم خارطة مسيرة أجيال تنتظر الحضور تحت الشمس، وكأنها كنز في أعماق خيال المنطلقين إلى ما بعد أفق الحاضر المكين.

وألتقي بجلجامش في مدينة أريدو وأسأله عن خلاصة الرحلة وجواهر الرؤى ومعاني الأبد، وأراه يشير إلى أسوار مدينته البهية المؤزرة بالفن المعماري القويم، وقال لي " البناء، البناء، حي على البناء، فلكي تبقى عليك بالبناء، بمعناه المطلق، بناء العمارة والإنسان، بناء العقول والنفوس والأرواح والأبدان وتخليق التراب" قال " هذا ندائي وأملي ورسالتي فلن يكون العراق إلا بالبناء".

وغادرت معاقل صيرورة الأزل، وأنا أقرأ رسائل الأبد التي إستحضرها جلجامش من أحراش سفره البعيد، وكيف إستخلص أحرف الوجود من جعبة أتونابشتم، الذي تيقن بأن الموت حق ولا ننتصر على الفناء إلا برسالة البناء.

وجئت إلى عالم آخر في مرابع العراق، حيث الفيض الروحي الفكري، الذي أسس لأمجاد تفاعلات مشرقة وذات تطلع أبدي، فبغداد كون دائري يدور مع الأفلاك، ولا يمكن القبض عليه أو التأثير فيه، لأنه يتدحرج إلى الأمام، ويمتلك قدرات إمتصاص الضربات العاتية، وتراءت أمامي أحوالها في زمن بانيها المنصور، ورافع رايات مجدها الرشيد ومؤسس فكرها وثقافتها الفياضة المأمون، وجالست نهريها واستمعت لحكمائها ومبدعيها ومغنيها وتنزهت في مروجها الخضراء، أبحث عن عيون المها ما بين الرصافة والجسر.

ومنها ركبت حصان المعاني والآمال وانطلقت به إلى حيث سامراء، فرأيت الشمس تشرق مرتين وتغيب مرتين، ففيها قبة ذهبية منيرة مع الشمس، ومأذنة ملوية شامخة تريد الإنطلاق إلى بحر الأكوان.

وتجولت في قصورها ورأيت المعتصم يستمع لقصيدة ابو تمام " السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب"، وجالسته ورأيت البحتري وابن المعتز مبدع الموشحات السامرائية، ووقفت مذهولا بجمال قصر المتوكل، وقصورها الأخرى وجامعها الكبير.

وأمعنت النظر في بركتها الحسناء وكهفها وأزقتها ومياهها وتأملت صفاء الروح وجمال الألفة والسماحة والتآخي الإنساني العظيم.

وتساءلت عن قبتها الراسخة في الروح والعقل والوجدان، وقال لي هاتف حزين " سرقها الغراب" وإحترت في أمر الحياة، وكيف تدحرجت الفضيلة وتسيّدت الرذيلة في وطن القادة والأئمة والأعلام.

ومضيت في رحلتي إلى مدينة الموصل، ورأيت الآشوريين وثيرانهم المجنحة ومدنهم العملاقة ودخلت في مكتبة آشور بانيبال، فوجدتها قد إحترقت لكن النار قد حولت رقمها الطينية إلى فخار، فأدركنا بفضلها تلك المعارف وإطلعنا على الحِكم والأفكار، فشكرا لإرادة النار.

وألفيت الموصل حزينة دامعة، بجامعاتها ومجموعتها الثقافية ومراقدها وغاباتها وفضاءاتها الإنسانية المتنوعة، فذهبت إلى مرقد النبي يونس ونظرت المدينة وأنا أدور حول الضريح وتذكرت نداءه وهو في بطن الحوت.

وقلت ذات النداء، وأرجو أن يستجيب الله لندائي ودعائي لأن العراق صار يونسا في بطن حوت العاديات.

وأعود إلى تلك الجولة بعد ما يقرب من عقد، وأجد العراق حيا ثائرا مقتدرا يصدح شبابه الواعد بإرادة الحياة ويحتضن راية العراق!!

وقل عاش الشعب ويحيا العراق!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم