أقلام حرة

ما الفلسفة؟

والفلاسفة أنفسهم لا يستطيعون الاتفاق على أيّ من التعريفات المقترحة. صحيح أن كلمة فلسفة تعني في أصل اشتقاقها اليوناني حبّ الحكمة ، لكن ماذا يعني حب الحكمة؟ لقد كان هناك تاريخ طويل ومجيد لأناس استحقوا صفة فيلسوف ، لكنّهم كانوا يتحدّثون في كلّ أنواع المواضيع بكلّ أنواع الطرق، وليس واضحا ما الذي يشتركون فيه حيث تجمعهم كلمة فيلسوف.

 

لا شك في أنّ العديد من الفلاسفة سيعترضون على ما سأقول في السطور التالية، غيرأنني سأقدم للقارئ أحد نماذج الفلسفة، فللفلسفة كما أقترح هدف ومنهج.

فهدف الفلسفة لا يجوز أن يكون أقل من تكوين نظرة شاملة ومنظّمة للعالم؛. ذلك أن الحقول المعرفية الأخرى تدرس أنواعا معيّنة من الأشياء. أما الفلسفة فتتساءل عما يجمع تلك الحقول معاً. إذا أردت- على سبيل المثال- أن تتعرف شيئا عن الأجسام فادرس مساقا في الفيزياء أو في علم الأحياء، وإذا كنت تريد أن تعرف ما العقل فادرس مساقا في علم النفس. لكن إذا كنت تريد معرفة العلاقة بين العقل والجسم، أو كيف يرتبط علم الفيزياء بعلم النفس، فطريقك إلى تحقيق ذلك هي الفلسفة (أو فلسفة العقل بالنسبة لهذين السؤالين تحديدا). والأمر نفسه ينطبق على الاقتصاد وعلم السياسة، وهناك طبعا مساقات أخرى كالموسيقى والفنّ تدرس قيما مختلفة (الرفاهية، والعدالة، والجمال). وهنا يتساءل الفلاسفة عما يجمع هذه القيم و عما يفرقها، وأين تتموضع هذه القيم في العالم الطبيعي الفيزيائي. ويحاول المؤرخون اكتشاف معرفة الماضي، فيما يسعى الفلكيون إلى اكتشاف معرفة النجوم والكواكب، لكن وحدهم الفلاسفة يسألون ما الذي يجعل أو يحول هذه الاعتقادات إلى معرفة، وهل بمقدورنا حتى أن نتوصل إلى المعرفة من حيث هي، وكيف؟

 مثل هذه الأسئلة الفلسفية مجرّدة جدا، لكن بفضل هذا التجريد تغدو الفلسفة شاملة العديد من الحقول المختلفة في الوقت نفسه.

هذا الهدف من الفلسفة كما صرحنا به في البداية هو ما يمكنك أن تدرس أيّ شيء تحت اسم الفلسفة. ومن هنا تحيط الفلسفة بفروع مختلفة كفلسفة الدين، وفلسفة القانون، وفلسفة الاقتصاد، وفلسفة علم الأحياء، وفلسفة الفيزياء، وفلسفة الرياضيات، وفلسفة الحاسوب، وفلسفة علم النفس، وفلسفة الفنّ، وفلسفة الموسيقى، وفلسفة الأدب وهكذا. أيّ أن جميع هذه المواضيع يمكن أن تدرَس على نحو فلسفي، وذلك بقدر ما تسهم دراستها في تشكيل رؤية شاملة للعالم، حيث يوجه الفلاسفة جهدهم إلى ما يجمع تلك الفروع معا.

 

ومن تباين الفروع أو المواضيع الفلسفية السابقة تظهر الاختلافات والتناقضات حتما. إن مفارقة الحرية (paradox of freedom) مثال مشهور على هذا التناقض: فالعلم، وتحديدا علم النفس، يدفعنا إلى الاعتقاد أنّ (1) كلّ فعل محدّد بسبب مسبّق. أما القانون والتقاليد المعروفة في حياتنا من لوم وعقاب فيدفعنا إلى الاعتقاد أنّ (2) بعض الأفعال حرة. لكن تعريف الحرية القائل (3) لا شيء يكون محدّدا وهو في الآن نفسه حر، يجعل من المحال لسوء الحظ أن تصدق (1) و(3) معا. لذا فأيّ نظرة للعالم تتضمّن كلّ هذه الادّعاءات الثلاثة ستكون نظرة مفكّكة.

 

هذا النوع من التناقض محبوب من الفلاسفة مكروه.الفلاسفة يحبّونه لأنه يحفزهم على التفكير، لكنهم يكرهونه لتنافره وتضاربه، لذا نراهم يحاولون -وإن بصعوبة- التخلّص منه. ثمّة طريقة سائدة لحلّ تلك التناقضات، هي التحليل المفهومي. فلو عدنا إلى مفارقة الحرية لوجدنا فلاسفة يحاولون تحليل معنى الحرية بطريقة تجعلها متوافقة مع الحتمية، وبذلك يقوّضون الادعاء الوارد في (3). فيما نجد فلاسفة آخرين يعرفون اللوم والعقاب بشكل لا يفترض معنى الحرية، مما يمكنهم من رفض (2). وما يزال فلاسفة آخرون يحلّلون الحتمية والسببية بطرق تثير الشكّ حول النقطة (1).

 والحاصل من ذلك كله أن واحدا من هذه الادّعاءات يجب أن ينحى جانبا. وعليه فإن التحليل المفهومي يحاول مساعدتنا على اتخاذ القرار المناسب بشأن الادّعاء الذي يجب أن يوضع جانبا.

قد يبدو التحليل المفهومي مقصّرا عن إرضائنا أحيانا، لكن عدم الوضوح أو الغموض في مفاهيمنا يوقعنا في أغلب الأحيان في نظرة للعالم يعتريها التناقض والتنافر، مما يحتم علينا اللجوء إلى التحليل المفهومي ما دمنا قررنا أن هدف الفلسفة هو الوصول إلى وجهة نظر شاملة ومتماسكة للعالم.

قد يستعمل الفلاسفة مناهج أخرى لتحقيق أغراضهم. فقد رأى بعضهم أن يوظف اكتشافات تجريبية في علم النفس، وعلم الأحياء، لإلقاء الضوء على قضايا فلسفية تقليدية كهذه القضية: هل يمكن أن تكون اعتقاداتنا الأخلاقية نتاجا لعملية التطور؟ فيما راح آخرون يوظفون تطوّرات في المنطق والرياضيات لأغراض فلسفية كقولهم: هل نقص الحساب، كما برهن ذلك جودل، يثبت أن الحاسوب لا يمكن أن يفكر على نحو ما يفكر البشر. وفي السياق نفسه، ما يزال فلاسفة آخرون يؤثرون الأدب والقصص المروية بضمير المتكلم لإبداء أفكارهم وتساؤلاتهم، منها مثلا: هل فهم المجموعات المضطهدة أفضل بالاستماع إلى قصصهم الخاصة؟

 إن ما يبعث الحيرة في النفس كيف للعالم المجرّد للأرقام أو لعالم التجربة الشخصية المعيشة، أن يتصل بالعالم الطبيعي للجزيئات الذرّية، ولهذا وجدنا المناهج المنوعة التي يستعملها الفلاسفة تعكس القضايا التي يجب أن يتعامل معها من أجل صياغة وجهة نظرنا عن العالم صياغة شاملة ومتماسكة في آن معا.

هناك ميزّة واحدة تقريبا بين كلّ المناهج التي يستعمل ها الفلاسفة: مساءلة كل أنواع السلطات أو المرجعيات ونقدها. فبينما يمتلك المشرّعون أو القضاة السلطة لإعلان ما هو القانون، وتؤدي النصوص في بعض الأديان دور المقرر، نجد الفلاسفة لا يقرون بأيّ سلطة خاصّة لأي شخص أو أيّ شيء مهما كان. كلّ ادّعاء من أي مصدر جاء خاضع للفحص. حتى الحسّ أو الفهم العام المشترك بين الناس لا يعدّ بديهيا،وهو ما يقود الفلاسفة لتقديم وجهات نظر تبدو غريبة جدا

بدلا من اللجوء إلى السلطات.

 يحاول الفلاسفة تسويغ وجهات نظرهم بالحجج. فهم يحبّون الحجج. وأحد الأمثلة القديمة حجّة زينون الذي ادعى أن: العدّاء الأسرع (أخيل) لن يسبق العدّاء البطيء (السلحفاة)، لأن من الضروري أن يصل( أخيل) أولا النقطة التي وصلت إليها (السلحفاة) في حال تقدمت عليه بمسافة معينة، لكن ما إن يشرع في ذلك حتى تسبقه (السلحفاة)بمسافة أخرى يتعين عليه أن يقطعها من جديد، وهكذا في كل مرة، حيث يبقى الأبطأ دائما متقدما على الأسرع .

إذا فكّرت في الموضوع قليلافستجد أن حجّة زينون واضحة. ما ليس واضحا: كيف يكون الردّ؟ إن ردّ فعل عامة الناس واحد دائما: كلام سخيف. لا شك في أن (أخيل) يمكن أن يسبق (السلحفاة ). أما الفلاسفة فيردّون بأن كلّ شخص يفترض بأنّ أخيل بإمكانه أن يسبق (السلحفاة)، لأن الظاهر أنّ العدائين السريعين يجتازون العدائين البطيئين، لكن كيف نعرف ما الذي يجري في الحقيقة؟ وما هو الخطأ في حجّة زينون التي أوصلتنا إلى نقيض ما تقوله الحقيقة؟ تذكر أنك لا تستطيع رفض الحجّة فقط لأنك لا تحبّ خاتمتها . ففي مثل هذا النقاش يحاول الفلاسفة كشف افتراضاتنا البسيطة، والبحث وراء هذه الافتراضات عن الأسباب الكامنة خلفها وتقييمها، هذا إن وُجدت أصلا. وهم يوضحون لنا الكيفية التي ستكون عليها وجهة نظرنا للعالم إن نحن تخلّينا عن تلك الفرضيات. هذه العملية يمكنها تحريرنا، حتى عندما أو ربّما لأنها تؤدّي إلى نتائج تبدو صعبة التّصديق.

يعالج الفلاسفة -في سعيهم وراء هذا الهدف من خلال هذه المناهج- أنواعا مختلفة من المشكلات يمكن أن تصنّف إلى ثلاث حقول رئيسية:

هناك أسئلة تتعلق بالميتافيزيقيا أو نظرية الوجود كالسؤال: هل الله موجود؟ هل عندنا إرادة حرّة؟ كيف ترتبط عقولنا بأجسامنا؟ ما الحقيقة؟ وغير ذلك من الأسئلة.

وهناك نظرية المعرفة التي تُطرح فيها أسئلة من نوع: هل المعرفة ممكنة، وإلى أي مدى؟ ومتى نكون في وضع يسمح لنا بالقول إن اعتقاداتنا مسوغة؟ وماذا عن المصادر (المفترضة) للمعرفة، مثل الإدراك والذاكرة والعلم؟ وهناك الفلسفة الأخلاقية التي تكشف لنا أيّ الأفعال صحيحة أو خطأ من وجهة أخلاقية، وبماذا يتميز الشخص الجيد أو السيئ وفق المعايير الأخلاقية؛ ثم هناك قيم أخرى، مثل الجمال تُدرس ضمن نظرية القيمة في علم الجمال. ومع ذلك فبعض القضايا الفلسفية المثيرة (كالقضايا التي أثارها الفلاسفة الوجوديون، والظاهراتييون، والمؤمنون بالفلسفة النسوية، وفلاسفة اللغة) لا تندرج بدقة تحت أيّ من هذه التصنيفات التقليدية.

لن يرتاح الفلاسفة الحقيقيون حتى يدمجوا النظريات الخاصة بكلّ هذه المواضيع على اختلافها في نظام فكري واحد ومتماسك، دون الركون إلى السلطات أو المرجعيات، لأن هذا المطلب ملحّ جدا.

 صحيح أن عمل الفلسفة يمكن أن يكون محبطا، لكنّه الشّيء الذي يمكن أن يملأ حياتنا ويمكننا من إنجاز ما نصبو إليه.

ترجمة أيمن حمودة- الأردن

              

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1285 الثلاثاء 12/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم