أقلام حرة

اللغة والسرد

اذ ان بعض التقاليد القديمة قد انقطعت، كالافتراض القديم القائل ان الرواية ينبغي ان تهتم بصحة تمثيل الشخصية والبيئة، وتهتم بالنظم الاجتماعية والاخلاقية التي تتعالى عليها . ان هذا كله موضوع تساؤل، والنتيجة تبقى غربة محققة عما اعتدنا معرفته بأنه الواقع، ونتيجة ابعد يمكن الدفاع عنها بأنها ذات امكانات مفيدة، هي استعمال التخيل وسيلة للبحث في طبيعة الرواية . ومع ان هذا ليس بالشيء الجديد، فقد اعترف به على نطاق واسع، بيد اننا اذا ما تقبلنا الجدة الى هذا الحد، فينبغي ان نضيف فورا ان ايا من هذه الامور الجديدة لم يكن بعيدا عن نظر القص الطويل في الماضي، فما تتعلمه عن السرد قد يكون بمعنى ما جديدا وان كان السرد في جوهره على الدوام مظنة ما نتعلمه، بقدر ما يكون ظننا صحيحا، وان وجدت اسباب مقنعة لأن تبدو الجوانب التي تهمنا اقل اهمية او لم يتعرض لها أحد . لهذا نشك ان كانت بنا حاجة الى الحديث عن فاصل تاريخي، حاجز تاريخي بين القديم والجديد، فمن المؤكد وجود فوارق في التشديد على ما ينبغي ان نقرأ، مثلما توجد فياساليب السرد ذاتها  اعادات في ترتيب الاهمية . ولعل هذا يعزى، كما يزعم النقاد الميتافيزيقيون الى تحول كبير في بنى تفكيرنا، ومع ان هذا قد يكون سببا كافيا لتغيير اهتماماتنا، فلا يظهر ان موضوع تلك الاهتمامات، الذي هو السرد، يحاكي التحول . يذكر (والتركير) في كتابه (الملحمة والرومانس) ان خضوع الملحمة للرومانس كان حدثا دهريا : (كان تغيير المزاج والاسلوب الذي مثله ظهور الرومانسيات الفرنسية وموضتها تغيرا شمل العلم كله ومضى ابعد من مجال الادب وتاريخ الادب). والمؤلف يتحدث عما سمي فيما بعد (عصر النهضة في القرن الثاني عشر، الذي لم يكن فيه الانتقال من نوع الشعر القوي الى نوع آخر أكثر صقلا وغموضا، وأقل بطولة. اما فيما يتعلق بالتغييرات الاكبر في المجتمع فلا يكتفي بتحريها في الشعر والخطابة، وانما في انواع جديدة من رواية القص التي (تحتوي على اخفاق الاساليب انفا في التفكير والتخيل). ان (الاخفاق) في هذا المقام كلمة قوية جدا، و(التعبير) هو الكلمة التي تقوم مقامها بكل توكيد . ولا بد من القول ان اعادة فحص الاداة وتصميمها، وهي هنا الرواية، يمكن ان يتعلق بأنواع اخرى من التغيير الثقافي كما يقترح (كير)، وان كان هذا مهما ضمن تاريخ السرد القصصي كمثال على حالة يغدو فيها من الممكن والمرغوب التفكير في طبيعة السرد لا كما تعطي وتدل على نفسها، بل كشيء يتعرض للتطورات الشديدة التفاوت . يقول (كير): لا لم يطرأ بعد ذلك اي تغيير في اشكال الرواية اشد اهمية من ثورة القرن الثاني عشر ... فقد وضعت بنحو نهائي خاتمة للقيود المحلية والمرحلية القديمة المفروضة على السرد .

 

قد يكون هذا غلوا، كما ان كلمة (خاتمة)  قوية جدا . وبأمكاننا ان نضيف الى سلطة (كير)  أفكار (يوجين فينافر)  الذي يتحدث عن امور مشابهة  في كتابه (نشوء الرومانس)  : ((أنظر اولا الى انواع الصعوبات التي تواجهنا في اغنية رولان) :  مشاهدها المتمايزة المتقطعة وفقدان (الروابط والنقلات الزمانية والعقلية) . فيبدو من المستحيل الحديث عن ان لها بنية شاملة، أو  جملا سردية، لأن هذا يتضمن سببية وترابطا وجملا اضافة لهذه الجمل المتتابعة من دونربط، فالامر ذاته ينطبق على الاقسام اللاحقة، يموت / رولاند / ثلاث مرات، كل مرة بنحو مختلف، وكأنه في قصة من قصص اللآن روب غرييه، ويصر على اننا اذا ما حاولنا ان ننضد هذه الاقسام وكأنها  زمانيا متلاحقة فسنشوه العمل الذي سيظهر اقل اهمية مما لو اننا بسطناه على سطح مستو من الزمان والسببية، ومن ناحية اخرى فأن للرومانس سردا مستمرا من هذا النوع بيد ان  المشكلات التي يطرحها صعبة كذلك .... بل غير مشروعة لشدة صعوبتها ويبدو ان الكتّاب يتعمدون الطلب من قراءهم ان يعملوا بجد عند قراءة نصوصهم، وأن يخلعوا معان عليها . فعمل القارىء كعمل الكاتب، انه  الكشف المطرد عن المغزى غير المباشر، وفي القص يكون عمل القارىء  قراءة الاشياء بما هو غير سردي. امن مهمة الكاتب – بطبيعة الحال – هي ان يخدعنا عن اشعاراته، ولكن من المهم  كي يقوم بذلك ان يقدم معلومات لا تعطلنا عن متابعته . فلو أخذنا رواية (بنتلي)  على سبيل المثال التي هي في بدايتها لعبة تأويلية، نقدم – حتما – معلومات تمكننا – ان لم نكن مسايرين – ان نشرع مستقلين عن مقاصد الكاتب أو أشاراته لأنه ليس مصدر الرسالة ولا حجة في قراءتها. ان مثا هذا التوجه، سواءا أكان توجيهيا ام حالات مرضية يبقى نوعا تسيطر عليه المعلومات التأويلية، غبر ان تقديمها بنحو قصصي  يشغل منظومات اخرى للقراءة، أو التأويل . لنتابع هذا المثال البلغ الاهمية في التطور التأويلي. يقال في رفض الرواية القديمة ان بعضا من صانعي الرواية الجديدة الواعدين قد اولوا الرواية البوليسية عناية خاصة، وعللوا ذلك بأنهم لا يثقون بـ (التعمق) . انهم يعدون الرواية التقليدية بالتعاقب الوهمي  وبتشخيصها الشكلي ، لذلك هم معجبون بالرواية البوليسية التي يسيطر فيها الجانب التأويلي على حساب (العمق)، والتي لا تحفل بالشخصية، والتي يوجد فيها بالضرورة عدد من الالغاز المتعاقبة التي تكبح التدفق الزمني والتشويه لأنها تتعلق بسلسلة من الحوادث المبكرة والمتفاوتة، كما ان وجود اشعارات غامضة امر بالغ الاهمية خاصة اذا اقلعت عن فكرة ان هذه الاشعارات يجب ان تنغلق على بعضها البعض بدقة كبيرة، وتخلت عن محاولة وضع خاتمة تأويلية تامة (فكل النهايات السئبة ترتبط معا) . 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1288 الجمعة 15/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم