أقلام حرة

ذاكرة المستقبل: القاسمي .. عُزلَةُ الانسان الفنّان

فهو يتصرف مع الفرص الحياتية والمناسبات الرسمية، وتقاليد البيئة ايضا، من اجل ان تتبعه، وتجري خلفه، فيما هو يبقى، كما هو الشاعر المُقَنَّع الكندي، منشغلا بمصائر الاهلين، في ديارهم البعيدة والقريبة.

 

يفتكر الناس انه هنا، بالشارقة حيث دارته واهله، او في القاهرة او بيروت، وربمافي باريس، او يمسك بالهاتف ويتحدث الى قدرات علمية بالنجف الاشرف، كما ألفَ احيانا، يتابع حالة انسانية، او يسال عن كتاب ما، وربما يُعدّ تخطيطات اولية لعمل مسرحي قابل، بينما يظن اعلام غشيم انه منهمك في اهتمامات حكام الطوائف الغابرة . وحاشاه .... ! .

 

ساروح الى غرف اخرى في فضاء عزلته الاخلاقية، عزلة الكاتب الانسان والفنان، رغم ان هذه الايام تستدعي الحديث في المعاني الكثيرة التي ينطوي عليها قرار جائزة زايد للكتاب، باعتبار الدكتور سلطان القاسمي، الشخصية الثقافية لسنة 2009 . انها غرف ذات ظلال خاصة، غنية بالمعاني والدلالات الاخلاقية، لاضيء على مبادرة شخصية له، وربما على مبادرتين، حيث سبيجد القاريء، ان سلطان الانسان الكاتب الفنان "يقسّم جسمه على جسوم كثيرة "، كما قال الشاعر العربي، في تأويل ما، ذات يوم.

 

وهذا هو شعوره، بل موقفه في الاخوّة، تلك الاخوّة التي طالما تحدث عنها الشعراء العرب المعاميد، واندريه مالرو . واني لأعرف كم هو مالرو اثير لدى الشيخ، سليل المرابطين عند ثغورنا المائية .

 

هو اخوك، وانْ لمْ تلْتَقِهْ .. !

بل هو اخوك، رغم ملابسات هذه العريكة العربية الرخوة، والمعرفة اللسانية للمعرفة، والخطاب الذي كله عوج، . لكن سلطان، الانسان الذي طالما خصني باحاديث عن اندريه مالرو، ياتي اليك كريما، كالصداقة ذاتها . بل كما هي الاخوّة عينها .

 

وفي شان الاخوّة، ليس ابلغ من اخلاق الاخوة وتقاليد اقطابها .

في ساعة مبكرة من صبح يوم في العام الماضي، رنّ جرس هاتفي المنزلي، وكان المُهاتفُ الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، او صاحب السمو كما اعتدنا ـ تادّبا ـ على مخاطبته في اوساطنا الثقافية، ليقول لي : اخي اللامي، ارجوك ان تجد لي هاتف الاخ الروائي يوسف ابو ريّه .

كنت اعرف من الصديق الكاتب القدير محمد سلماوي، ان " ابو ريّه " يعاني من سرطان مستحكم في كبده .

 

وكان فارق الوقت بيننا نحن الذين بالشارقة، وبين وقت اهلنا بالقاهرة، ليس فس صالحنا . ثم ان الرجل مريض وطريح الفراش . لكنني من جانب اخر، كنت على يقين ان الشيخ يعرف ان يوسف عليل، وان علته احد اسباب هذا الاتصال الهاتفي المبكر جدا معه .

بعد ثلاثين دقيقة، كان مُرادُ سلطان، بصدد ابو ريّه ... معه . وبقية الحكاية، تحتفظ بها جدران مقر اتحاد كتاب مصر .

 

وفي امر اخر، وعندما كان صديقنا العزيز مظفر النواب، بيننا بالعاصمة في زيارته الاولى لابو ظبي، بجواز سفره الليبي، وباسمه المستعار، حدث ان اعرب لي النواب عن رغبته في السلام على الدكتور سلطان . ولم تاخذ ترتيبات اللقاء وقتا طويلا، مع اشارة من قبل الشيخ ان يبقى مظفر ورفيق رحلته في حينه : الشاعر رياص النعماني، فترة مناسبة بالشارقة، ليطلع على هذه المدينة، التي طالما شهد الصديقان العزيزان، النواب والنعماني، علامات هيامي بها، ونحن في منزل بمخيم فلسطين في دمشق، على امتداد ايام من سنوات في عقد ثمانينات القرن الماضي .

 

في البدء، استقر الراي على ان يستقبلنا الشيخ في مكتبه الرسمي، الذي اعتاد ان بستقبل فيه كبار ضيوفه الرسميين . لكن الذي فاجاني ـ شخصيا ـ ان هناك من اتصل بي وقال لي : اخ جمعة، صاحب السمو يسلم عليك، ويقول ان اللقاء مع النواب والنعماني سيكون في منزله .

 

نهضت الصداقة على حيلها، اذن .

وحين وصلنا الى عتبات المنزل، كان سلطان بدشداشته البيضاء، يقف عند البوابة الرئيسية . في حينها عرف مظفر انه تبلغ رسالة ضخمة في الاخلاق. "انت في بيتي، كما لو انك اخي، او اخي فعلا " . هكذا كانت رسالة الشيخ.

وعندما انتهينا من حديث شيق، له وقت اعلانه انشاء الله، اصطحبنا سلطان، وهو في تلك الوضعية غير الرسمية، حتى البوابة الرئيسية للمنزل، ليقول مظفر له : "كان عندي معلومات ناقصة . والان اكتملت " .

هنا قال سلطان :" يا مظفر، انظر، نحن لا نملك، نحن نحكم " .

اعرف مغزى هذه الاشارة القاسمية . واعرف اي لحظة ذات خصوصية، تلك المبادرة السلطانية

 

وحدث ان ان امرا صحيا غيّبني عن الكتابة اياما معدودات . وكنت في حينها نزيل مستشفى بالعاصمة، بين الياس والرجاء . وفجاة كسر صمتي، وانا وسط مجموعة من المرضى الاسيويين، صوت ينادي علي للجري خلفه الى غرفة الهاتف . كان الفراش الهندي برما بي، فهو لم يجدني الا بعد لاي . وحين اخذت بسماعة الهاتف، كان على النقطة الاخرى من الخط، سلطان القاسمي، وهو يقول لي :" وَينكْ ياجمعة، لكْ وَحْشَة "

بعد ذلك عرفت انه امضى قرابة ثلاثين دقيقة، وسماعة الهاتف في يده، بينما فراشو المستشفى يبحثون عن مريض اسمه : اللامي، بين مرضى غالبيتهم لا يعرفون لغة الضاد .

 

لماذا اتحدث على هذا المنوال، بينما وسطنا الثقافي والاعلامي، منشغل بنبأ اختيار سموه، بكونه الشخصية الثقافية لسنة 2009، من قبل جائزة زايد للكتاب، وهو اختيار له ابعاده الوطنية، ورمزيته الثقافية والوجدانية ؟

واجيب ببساطة متناهية: ان فيض الكلمات الادبية، وفيوض المواقف الاخلاقية، هي مواقف صاحبها. انها علامات على طريق الوصول اليه .

 

اتوقف كثيرا عند قيام شاعر المانيا الفذ : جوته، بالتنازل عن منزله الخاص، لصديقه الشاعر فردريك شيللر، الذي كان يمر بازمة عاطفية في حينه، لكي يتفرغ لابداعه .

واتذكر مالرو وديجول .

واستعذب الحديث في رفقة الشريف الرضي، لعدد من وجهاء زمانه .

 

والحق، ان الانهار الكبيرة لا تشبه الا نفسها، وكذلك هي النفوس الكبيرة، نفوس الفنانين والكتاب، التي قناعها هو جلدها الحقيقي . ولذلك عندما تأتي اليهم ايات التقدير والعرفان بالمكانة اللائقة بهم، فكأنها النهر حين يستدعي البحر .

او البحر حين يرجع الى اصله : النبع .

اليس مالرو هو القائل: "الانسان، هو ما يفعل!" ...؟

 

 

جمعة اللامي

الخميس : 21ـ 1 ـ 2010

 

www.juma-allami.com

www.sharjahmisan.com

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1295 السبت 23/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم