بأقلامهم (حول منجزه)

عبد الأمير المؤمن: الوعي الموسوعي عند الأستاذ ماجد الغرباوي

على الرغم من ان العصر الحديث والمعاصر هو عصر علمي تخصصي صارم، يهتم في الدرجة الاولى بالتخصصات الضيقة، وخاصة التخصصات العلمية والتكنولوجية الا ان الثقافة الموسوعية العامة التي تتصل بامور الحياة المختلفة وما وراء الحياة، لا بد منها في سبيل حياة متكاملة متزنة جميلة وممكنة.

فالثقافة الموسوعية العامة امر ضروري لكل فرد يعيش في مجتمع يضم انواعا وألوانا من  الاعراق والعادات والسلوسات والحالات، والا سيكون معزولا خارجا عن سياقات المجتمع الذي يعيش فيه.

وقد سلك اعلام التراث العرب والاسلامي في امتداد الحضارة العربية الاسلامية هذا السلوك  الموسوعي العام في حياتهم العلمية والفكرية والادبية.

فمثلا كان ابو يوسف الكندي المتوفى سنة ٢٦٠ هجرية فيلسوفا ورياضيا وفلكيا وعالما طبيعيا  وطبيبا وجغرافيا وما الى ذلك، وقد سجل له ابن النديم عددا كبيرا من من الكتب والرسائل والتي ضمت انواعا مختلفة من العلوم والمعارف.

ومثله كان الشيخ الرئيس ابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ هجرية، كان فيلسوفا وطبيبا وشاعرا وفلكيا وعالما طبيعيا وما الى ذلك. وكذلك كان الفارابي والبيروني وابن رشد والغزالي وغيرهم الكثير.

 وغالبا ما كان مصطلح (الحكمة) يضم تحته مختلف العلوم والمعارف، وكان العالم او الحكيم او الفيلسوف او المؤرخ يجمع عددا من العلوم والمعا رف لمحدودية العلوم والمعارف المتوافرة في ازمانهم. فكتاب (الاصول) للرياضي اليوناني اقليدس يجمع اغلب المادة الرياضية والهندسية، وكتب الطبيبين ابوقراط وجالينوس كانت تجمع اغلب العلوم الطبية.

هكذا كان الفرد الواحد العالم او المفكر يجمع بين هذه العلوم في زمن قصير لمحدودية تلك العلوم التي كانت معروفة في عصره.

وبدخول العصر الحديث في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر وما بعد ذلك، وخاصة بعد ظهور عالم الفلك البولندي كوبرنيكوس المتوفى سنة ١٥٤٣ وتوسع العلوم وتفرعها واستقلالها بدأ الباحثون والعلماء يتخصصون، فهذا فيزيائي وذاك كيميائي وآخر فلكي ورابع نباتي او حيواني، ومثل ذلك توسعت الدراسات الانسانية والادبية فظهر علم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ وما الى ذلك.. وفي هذه الظروف الجديدة ظهر متخصصون صارمون في هذا العلم او ذاك، وظهر معهم الابداع في العلم والتكنولوجيا والعلوم الانسانية المتنوعة.

وعلى الرغم من اهمية التخصص الكبرى في نمو العلوم وتطورها، باعتباره يوفر جهودا كبيرة وتركيزا خاصا لموضوع واحد،الا انه يبقى بعيدا عن تكامل الشخصية العلمية والثقافية المؤثرة في عصر جديد هو في امس الحاجة الى الحالة الموسوعية العامة لكي تستطيع ان تغير المجتمع المتنوع وتؤثر فيه.

وهكذا وجدنا في حاضرنا المعاصر شخصيات علمية وفكرية جمعت بين التخصص والثقافة الموسوعية العامة، شخصيات اثرت في مجتمعها وغيرت كثيرا مما فيه.

ولكي لا ندخل في اسماء وعناوين الشخصيات العلمية والفكرية التي جمعت بين التخصص والثقافة الموسوعية العامة سنتحدث عن شخصية علمية وفكرية ودينية انسانية جمعت بين تخصصها الاساسي الاول (الشريعة والعلوم الاسلامية) والثقافة الموسوعية العامة، ذلكم هو الاستاذ الباحث الجاد الاخ العزيز ماجد الغرباوي، الصديق الصادق الذي لم ينس اصدقاءه واحباءه في حياته الاجتماعية والعلمية والفكرية والثقافية .

فهو انسان انساني بحق جمعنا معه الدين والعلم والفكر والثقافة والوعي، جمعنا ذلك المعلم الديني والفكري والثقافي في (مجلة التوحيد) و(كتاب التوحيد) والمساجلات العلمية والفكرية والثقافية حينما كنا نجتمع سوية لتناول موضوع معين في هذا المجلس او ذاك، لاجل فكرة او منجز علمي او فكري او ديني او ثقافي او اجتماعي وغير ذلك.

كان الاستاذ الغرباوي باحثا علميا فكريا واعيا، ادار عددا من المؤسسات والندوات العلمية والفكرية والدينية والثقافية. كان رئيسا لتحرير مجلة التوحيد، المجلة الاسلامية الفكرية الثقافية، وكان عضوا استشاريا (لكتاب التوحيد) الفكري الثقافي، وهي سلسلة دورية تصدر عن مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي، وكان ايضا رئيسا مؤسسا لسلسلة (رواد الاصلاح) وهي سلسلة فكرية ثقافية اصدر منها عددا من الكتب المهمة. وكان في كل ذلك رئيسا ومديرا ومسؤولا ناجحا، مازجا علمه بالاخلاق العالية، وكان يدير الحوار الديني والفكري والثقافي ادارة منهجية ناجحة متزنة، جامعا بين ثقافة الدين الواعي والثقافة الموسوعية المتنوعة، من علم وفكر وادب وتاريخ واجتماع وفن ومواد موسوعية متنوعة اخرى.

لقد ادار مجلة التوحيد الدينية الفكرية الثقافية ادارة واعية، فكان يختار موضوعاتها اختيارا واعيا مقتربا من العقل ومبتعدا عن الخرافة والعشوائية.

وكانت كلمة التحرير التي يكتبها هو في مقدمة المجلة مليئة بالوعي الديني والفكري والعلمي والثقافي، ومن ذلك يمكن ان اذكر ما كتب في العدد ١٠٢ لسنة ٢٠٠٠ ميلادية من المجلة.

ففي كلمة التحرير التي حملت عنوان: (اخفاقات الوعي في المرحلة الراهنة) يقول الاستاذ الغرباوي:

(عندما ننقب في ماضي الحضارات المتطورة بحثا عن عوامل نهوضها، يتمثل امامنا دور الوعي في صناعة نهضتها، وسيتضح ايضا  ان التطور الحضاري يبدأ دائما مع اول بوادر الوعي، كما ان صدقية ذلك التطور على ارض الواقع ستتحقق اذا اتيح للوعي ان يسود المفاصل الحياتية في المجتمع.

والوعي يعني ادراك الحقيقة، وتشخيص الواقع،وتحديد الأولويات وتمييز الالتباس واكتشاف التزوير. وعلى العكس تعيش الشعوب غير الواعية السكونية والتجرد والجمود، والاصرار على رهانات خاسرة والتبرير، اضافة الى تضخم الذات والشعور بالفوقية والانغلاق على الانا).

لقد كان الاستاذ الغرباوي قارئا ومثقفا مؤمنا، وفي الوقت نفسه كان ناقدا، والنقد سمة اساسية للبحث العلمي، لم يخرج عن الاوليات الدينية الصحيحة، بل كان يؤكدها، واذا كانت له آراء خاصة في اي موضوع، فهي له لا يفرضها على احد وهذه سمة مهمة من سمات الموضوعية والوعي والاتزان الثقافي.

والمثقف الواعي يفيض علما وفكرا وثقافة، وهكذا كان الاستاذ الغرباوي. فحين غادر الى بلاد المهجر، لم يهجر الثقافة ولا الدين، لم يغب عنه الوعي، ولم يترك هويته الدينية والثقافية والموسوعية، فانشأ سنة ٢٠٠٦ م مؤسسة  ثقافية واعية تحت اسم (مؤسسة المثقف) بمدينة سدني باستراليا، وهي مؤسسة ثقافية اهتمت بنشر الثقافة وقيم التسامح الديني، قد صدر عنها (صحيفة المثقف) كما قدمت عددا من الجوائز، من بينها (جائزة الابداع)   و(جائزة المرأة) و(جائزة المثقف).

لقد استقطبت هذه المؤسسة عددا كبيرا من الباحثين والمفكرين والمثقفين والكتاب، كتبوا في موضوعات متنوعة، موضوعات علمية وفكرية ودينية وادبية ونقدية وغير ذلك. اضافة الى عقد الاستاذ الغرباوي الندوات والحوارات والمقابلات العلمية والفكرية  والاجتماعية والثقافية وما الى ذلك.

وقد اصدر الاستاذ عددا مهما من المؤلفات والدراسات والبحوث، وله ايضا عددا من الترجمات الى اللغة العربية.

وفي كتاباته في مؤلفاته ودراساته تجد موضوعات موسوعية متنوعة، تجد موضوعات قرآنية وحديثية وفكرية وعلمية وتاريخية وسياسية وحضارية وفي الاديان وفي المراة فهو بحق باحث موسوعي.

 ويمكن قراءة ذلك في مؤلفاته المختلفة، ومن مؤلفاته يمكن ان نذكر بعض ما ورد

 في سيرته الشخصية.

* اشكاليات التجديد

* التسامح ومنابع اللاتسامح

 *تحديات المثقف

* المرأة والقرآن

* الهوية والفعل الحضاري

* الاصول الرجالية الاربعة

* تحرير الوعي الديني

* الشيخ المفيد وعلوم الحديث

* واخرى غيرها لا مجال لذكرها هنا، أهمها موسوعة متاهات الحقيقة.

***

د. عبد الأمير المؤمن

كاتب وباحث في تاريخ الفلك والحضارة الاسلامية

...........................

* مشاركة (19) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10