أقلام حرة

رأي في التخلف (7)

عبد الرضا حمد جاسمحَّلاق في زقاق من أزقة الوطن في عقد/سنوات الحصار له ما يميزه من أدبٍ راق وأخلاق.. وله الكثير من الأصدقاء والزملاء والرفاق.. لتحية القادم سَّباق.. يكدح على قدمٍ وساق أنه ابو عادل الحلاق..

أبو عادل الحلاق محب هادي كريم متسامح متساهل واثق.. للخير سَّباق.. تحَّمل بعض ما لا يُطاق بصفاء وصبر العُشاق.. يتأمل كل صباح الإشراق.. أنه أبو عادل الحلاق.

في طريقي اليه كما كل صباح جمعة.. انتبهت الى ستار يجلس على كرسي امام محل (صالون) حلاقة أخر ليس ببعيد عن محل (صالون) حلاقة ابو عادل وهو يقرأ في صحيفة يومية..

صباح الخير ستار..

صباح النور استاد

انتبهت الى الزجاجة الامامية للمحل (صالون الحلاقة).. مكتوب عليها: حلاقة ستار للرجال

استغربت وباركت له وسألته عن ابو عادل وتركته وهو يقول (ألله وياك عمي)

ستار كان عامل في محل (صالون حلاقة) ابو عادل منذ ان عرفت ابو عادل عن طريق صديق قبل اكثر من عام في وقتها

ابو عادل رجل يقترب من الاربعين في عمره حينها.. حلاق رجالي.. صاحب محل صغير منزوي في شارع فرعي.. رجل كما ورد في وصفه أعلاه يضاف لها انه قليل الكلام بعكس ما ذُكِرَ عن الحلاق والثرثرة

تعَّرفت عليه عن طريق زميل طلب مني يوماً مرافقته ليقص شعر رأسه حيث دخلت لأول مرة الى ذلك المحل.. بعد التحية والتعارف والترحيب قال صاحبي مخاطباً ابو عادل:

أبو عادل عيوني.. أقدم لك الأخ.. (وهو من ربعكم).. (في اشارةٍ لي).

رحَّب وشَكَرَ وتمنى وابتسم وقال: (هله وكل الهله بيك او بيه)

تلقفت الكلام وعرفت معناه..

قدم ابو عادل الشاي.. و دار حديث عام بينه وبين زميلي وانا اقلب بإحدى صحف ذلك اليوم التي يبدو ان ابو عادل تعَّود شرائها ووضعها في محله حيث هناك اعداد منها لأيام سابقة.

مضت أكثر من نصف ساعة.. همستُ في أذن صاحبي.. تأخرنا.. ماذا هناك؟

فرد ابو عادل وكأنه تلقف ما اقصد قائلاً: حلاق الأخ ( وهو يُشير الى زميلي) لم يحضر بعد.. خلال دقائق سيأتي.. فعلاً بعد دقائق وصل شاب مُهتم بنفسه يحمل معه كتاب ودفتر.. ادى تحية الصباح بحياء واحترام.. بادلناه بأحسن منها.. وضع كتابه ودفتره وارتدى ما يرتديه في عمله.. و نهض زميلي ليجلس على كرسي الحلاق ويُسلم رأسه لشاب لم يتجاوز السادسة عشر من العمر. باستغراب اُراقب ما يجري

اقترح ابو عادل ان نجلس خارج المحل ربما منعاً لإحراج ستار في اول مره له مع شعر زميلي.. جلسنا نتكلم على ما ورد في الصحيفة وما اُذيع من اخبار..

سألني ابو عادل: أين تسكن؟ قلتُ له في (الطوبجي) (حي السلام).. ابتسم قال على خط (44) ( يقصد باص مصلحة نقل الركاب رقم44 الذي يخدم المنطقة او الحي)..

قلت له نعم.. اركب من بدايته وانزل في نهايته.. (لمن يعرف بغداد هذا الخط ينطلق من ساحة الشهداء في الكرخ الى منطقة او مدينة الطوبجي /حي السلام)..

ضحك ابو عادل وقال: من ترجع سلملي على اخوية مجيد الاوتجي (الاوتجي.. تعني صاحب مكوى الملابس /كان على الفحم).. محل مجيد يقع عند نهاية خط الباص44

قلت له.. تعرفه؟ اجاب نعم هذا (عتيك) اي معرفة قديمة او متمرس في شيء.. شكرته وتعهدت له بأن سلامه سيصل اليوم.. تكلمنا عن مجيد الطيب..

وقد وصل سلامه في نفس اليوم وكان محل حديثنا انا ومجيد الذي اعرفه ويعرفني جيداً.

لا أبالغ أذا قلت ان نسبة عالية من أهالي المنطقة الواسعة المتنوعة (الطوبجي/ حي السلام)/بغداد تعرف مجيد الاوتجي.. وحتى الغريب عندما يسأل على شخص او دار او عائلة يقولون له أسأل مجيد الاوتجي فهو يعرف نسبة عالية من اهل المنطقة.. (يعني مختار غير رسمي).

خرجنا من المحل (صالون حلاقة ابو عادل) انا وزميلي.. وتدور برأسي اسئلة كثيرة.. حيث هناك امور تحتاج الى تلك الأسئلة وأجوبتها..

بادرت بسؤال زميلي: يبدوا أن ابو عادل قد ترك العمل وهو في عمر الشباب تقريباً (أربعين عام).. حيث العادة أن الصديق يقص شعره (الاسطه) صاحب المحل وليس العامل..

فرد صاحبي مبتسماً وقال.. كنت.. لكن أبو عادل وبحكم الصداقة التي تربطنا طلب مني في أحد الايام ان اقبل بأن يقص لي شعري ستار.. مستقبلاً.. وقال انظر الى قصة شعري فهو من قصها لي..

يقول صاحبي: استغربت!!!.. لكن ابو عادل بادرني قائلاً (لا يقص شعر الحلاق إلا حلاق مثله).. فهمت القصد وقبلت الطلب.

وعندما (والحديث لصاحبي) استوضحت الامر من ابو عادل.. قال لي:

انا كما تعرف لي عائلة صغيرة أنا وزوجتي (راسي او راس المرة لا ولد ولا تلد) (تعني.. ليس لي اطفال رغم زواجي المبكر).. و لي جماعتي الذين يرغبون ان اكون حلاقهم الخاص.. و هذا يكفيني ويسد كل احتياجاتي وهي بسيطة كما تعرف.. و ستار يتيم الاب وله والدته وثلاث اخوات أصغر منه.. و هو طالب وصغير بالعمر.. والده (من جماعتنا) قدم حياته في سبيل ذلك ولم يترك لهم اي مصدر عيش.. وانا تكفلت بهم على قدر ما استطعت كل تلك الفترة.. تقاسمت معهم ما يمكننا من العيش حتى بكفاف.. و عندما كَبُر ستار قلتُ له أن يساعدني في المحل ويتعلم مهنة قد تعينه في قابل الايام وسيكون له رواد ممن يرتادون المحل اليوم.. على ان يستمر بدراسته في المساء..

واستمر صاحبي يسرد عليَّ تلك الملحمة الانسانية التي كتبها عملياً ابو عادل..

اكمل حديثة ونحن جلوس في احدى المقاهي القريبة في شارع الرشيد قائلاً: تدَّرب ستار على قص الشعر.. من خلال المشاهدة والانتباه والتعليم والوصايا من ابو عادل.. واول تجربة عمليه له كانت حين طلب يوماً أن يأخذ ادوات الحلاقة البسيطة معه الى البيت.. ليقوم بقص شعر ابن الجيران الصغير حيث يتقاسمون السكن.. و استمر هذا الحال اسبوعياً تقريباً ومجاناً مع اطفال المحلة/الطرف/العكَد التي يقع فيها المحل (الصالون) ودار سكن ستار.. إلى أن تمكن من كسب اعتراف ابو عادل بمهارته في عمله الجديد من خلال الانتباه الى قص شعر اطفال المحلة..

في أحد الايام.. طلب أبو عادل من ستار أن يقص له شعر رأسه.. صُعِق ستار كما وصف الموقف ابو عادل.. لكنه شجعَّه.. أحسن ستار عمله وتكرر الحال مع ابو عادل..

في أحد الايام وانا في المحل ليقص ابو عادل شعري.. قال لي.. ما رأيك بقصة شعري؟.. هل فيها عيب او عيوب.. قلتُ (و الكلام لصاحبي) لا.. ممتاز.. أكيد عند حلاق متخصص مثلك.. ضحك وقال نعم.. حلاق أحسن وأفضل من معلمه (صانع الاستاد.. ستاد او نص)(ما يزين الحلاق الا حلاق مثله) [يعني من يتدرب عند استاذ يصبح اكثر من استاذه واحسن].. أنه ستار.. واطلب منك أن تقبل به حلاقك من اليوم..

أكمل صاحبي قائلاً: لا تستغرب عندما يطلب منك ذلك في يوم من الايام.. و خلال فترة قصيرة حتماً.. و فعلاً حصل وتقبلت ذلك بكل رحابة صدر..

تركتُ ستار.. يجلس في باب صالون حلاقته.. و توجهت الى محل ابو عادل.. مستغرباً خائفاً من أن هناك خلاف او نكران جميل من ستار لمُعَلِمُهْ وعمه ابو عادل وانا بقلق اسأل ابو عادل عن ستار كأني لم التقيه..

ضحك ابو عادل.. وقال: اصبح صاحب محل مستقل واستاذ في مهنة الحلاقة..

كان المعروف في صالونات الحلاقة او محلات الحلاقة ان يقدم الزبون هدية بسيطة قبل الخروج للعامل يُطلق عليها في العامية العراقية (بقشيش أو بخشيش).. هذه كانت لستار مع اجوره اليومية المُعتادة من ابو عادل.. و بعدها قرر ابو عادل أن يعطيه اجور الحلاقة التي يقوم بها ستار كاملة.. بالإضافة الى مساعدته في انجاز واجباته المدرسية وحرصة على دراسته واستمرارها.

موقف صعب ودرس بليغ ونزاهة وشرف واخلاص متناهي أخرسني عن قول أي شيء. سرحت في خيال وشرود وصمت حيث تعجز الكلمات عن وصف ذلك.

كسر كل ذلك ابو عادل بابتسامته وهدوءه المميزينْ وقال: من اليوم انت حلاقك ستار. تأتي هنا أهلاً وسهلاً وانا بشوق لكن للتواصل فقط أما قص الشعر فهناك.

وهذا الموقف أخبر به أو طلبه من كل من كان ستار يقص لهم الشعر..

وفي احدى المرات.. قال لي أبو عادل أنا سعيد لأن ستار تعلم مهنة تدر عليه ما يسد به احتياجات عائلته.. وبذلك انا ربحت ايضاً.. ربحت كثيراً.. أني اوفيت حق والده صديقي واوفيت حق القيم التي آمنتُ بها ولا أزال. وربحت اني مرتاح الضمير.. و ربحت لأني تخلصت مما كنت أقدمه لهم من مال ولو بسيط وربحت لأن ستار فيه وفاء وصدق أبيه ولم ينسى عمه ابو عادل فهو كل يوم يأتي ليفتح المحل وينظفه وينظف امامه وينتظرني الى أن آتي اُصَّبِحْ عليه ويُصَّبح عليَّ وبعد ذلك يذهب ليفتح محله (صالونه) وعند المساء يأتي بعد أن يغلق محله ليُنظف المحل والادوات ويغلق المحل ويُمَّسي عليَّ وأُمَّسي عليه.

هل هناك سعادة اكثر من هذه السعادة.. و انا على يقين من أنه لن يترك (خالته) زوجتي لو حصل لي مكروه فهو ابنها الذي لم تلده.

تحية كبيرة للكبير ابو عادل (اصدقاءه من اطلقوا عليه اسم ابو عادل) لماذا؟ لا اعرف.. وحتى لم اتجرأ يوماً في سؤاله عن اسمه الحقيقي الذي لا اعرفه حتى اليوم !!!.. وبحثت عنه في زيارتي الأولى للعراق بعد2003 ولم أصل الى شيء. وتحية للغالي مجيد (الاوتجي) والذي لا اتوقع انه حي لليوم لهما الذكر الطيب.

وتحية للشاب ستار الذي ايضاً لا اعرف عنه شيء إلا أنه حصل على الشهادة الثانوية والتحق بالجامعة ولا يعرف عنه شيء من قال لي ذلك وهو صاحب محل بيع الاحذية الملاصق لمحل الحلاقة.. حيث باع محله وانتقل الى مكان آخر قريب لسكنهم الجديد في احدى ضواحي بغداد.. اتذكر ستار عندما كان يستقبلني يقول (استادي) وعندما اُغادر يقول الله وياك عَّمي

وتحية لمن ارضعتهم الدر وتحية لمن علمهم القراءة والكتابة وتحية خاصة لمن علمهم حب الناس واحترامهم..

قد يقول قائل وما علاقة هذه التي كتبتها ببعض تصرف بالتخلف.. اقول الاحترام والصدق والوفاء والمساعدة والتدريب وحسن التعامل والتعاضد والمحبة والود كلها ضد التخلف وضمن مسار الإصلاح والتطور.. هكذا افهم

 

عبد الرضا حمد جاسم

 

في المثقف اليوم