أقلام حرة

الكرسي والشعور!!

صادق السامرائيأهتم بعلاقة البشر بالكرسي وأحاول جاهدا أن أفسرها وأفهمها ولكن بصعوبة بالغة، لأنها علاقة معقدة ومركبة وذات تفاعلات وتطورات تشوشها، وتغلفها بطبقات من التصورات والتهيؤات، التي يعجز الحصيف عن تقشيرها والوصول إلى لبها.

وفي كل مرة يتبيّن لي شيئا ما تحت قشرة غلاف يمكنني أن أزيله وأتمعن بما تحته، واليوم أفزعتني آية في سورة البقرة وأيقظتني، وكأنها أزالت كل قشرة وأظهرت الجوهر التفاعلي ما بين البشر والكرسي.

فالآية تقرن الفساد بغياب الشعور، ولا تقرنه بمعرفة الفساد، أي أن الفاسد وإن عرفَ ما يقوم به فاسدا لكنه لا يشعر به كذلك.

أعادتني هذه الآية إلى مرحلة بعيدة عندما كنت أذهب للمقابلات للقبول في برنامج الإقامة في الطب، وذات مرة كانت مقابلتي مع رئيس قسم الطب، ووجدته قد وضع مكتبه عند الجدار وجلس أمامه، فعندما لاحظ إستغرابي قال: " الكرسي يسرقنا شعورنا"، وما فهمت ذلك، فالذي إعتدت عليه أن أقابل من يحدثني من وراء مكتب فخم، وهذا الأستاذ يتفاعل معي بأسلوب آخر.

بقيت كلماته " الكرسي يسرقنا شعورنا" تتردد في ذاكرتي الكامنة، وها هي تبرز اليوم، وقد إستيقظت بإنبهار وسطوع.

نعم إن الكرسي يسرق شعور البشر ويبلد أحاسيسه، ويحوّله إلى موجود من خشب ينتظر يوم إحتراقه القريب أو البعيد، ويكون ذلك واضحا في الكرسي الذي في السلطة، لأن الطاقة الفاعلة فيه لإذهاب الشعور تكون عاتية ومتناسبة مع درجة الكرسي، أي كلما كان في رأس السلطة تكون المشاعر مفقودة أو ميتة تماما، وتأتي بعدها درجات أو أشد منها إعتمادا على موصفات شخصية البشر المقبور في الكرسي.

ولهذا فأن العلاقة ما بين البشر المرهون بالكرسي والمواطنين الفوارين بالمشاعر والعواطف، تكون متنافرة ويدركها على أنها عدوان عليه وحسب، ولا يمكنه مهما توهم أن يتمثل شيئا من أحاسيسهم ومعاناتهم، ويبقى في سرابية وجود وفنتازيا متمادية في تحليقاتها، ومعززة من الحاشية المستفيدة من هذا الإذهال، والشرود السقيم لصاحب الكرسي العقيم.

ويبدو أن بعض المجتمعات قد برزت فيها عقول نابهة حاذقة، فوضعت الأسس والضوابط التي تردع هذه الحالة، وتجد الدواء الذي قد يشافيها ولو لحين، وذلك بسنّ القوانين وتوزيع مراكز القوى وترتيب التوازنات، لكي تكون مسيرتها ذات إتجاهات إيجابية وتفاعلات نافعة للوطن والمواطنين.

وعلى مجتمعاتنا الحية الإنتباه إلى غياب الشعور من الكراسي، فبفقدانه تتحقق النكيات القاسيات.

فهل لنا أن نشعر لنكون؟!!

  

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم