أقلام حرة

إغتيالُ فخري زاده

قاسم محمد الكفائيالمقدمة: الثورةُ الإسلامية في إيران ومنذُ قيامِها عام 1979 مرَّت بمُنعطفاتٍ مُتشابكةٍ، كثيرةٍ ومتباينةِ الخطورة عندما تحوَّلت الدولة من نظامٍ ملكي رجعي الى نظامٍ جمهوري مُتحررٍ رافضٍ للهيمنةِ الأمريكية والصهيونية. هذا التحوُل كسرَ شوكةَ الإستكبار الدولي داخلَ إيران ودولِ المنطقة والعالم. مما لا شكَّ فيه أن هويةَ الثورة وقائدِها أثارا حفيظة الإدارة الأمريكية ودفعاها لإتخاذ أقسى المواقف لصد تأثير هذه الثورة على الدول والمجتمع العربي والعالمي. فكانت الحرب التي شنها صدام حسين عام 1980 على إيران هي واحدة من أوجه الحروب التي دفعت بها أمريكا من أجل تحقيق أهدافها.

فكان يومُ الإنتصار بقيادةِ رائدِها الإمامُ الخميني –تقدست روحه الطاهرة- هو بداية التفكير الأمريكي باتجاه ضرب هذا الكائن الحدث، المُتخلف وقد يحتاجُ ردمُهُ الى أشهرٍ معدوداتٍ بروحٍ ميكيافيلية تعمل على إعادة مؤسسات المملكة الشاهنشاهية الحليفة. لكن إحراقَ علمَ السفارة الإسرائيلة في طهران ورفعَ علمَ فلسطين عليها، ثم عملية إحتجاز الرهائن الأمريكان كانتا ضربتان موجعتان بامتياز في جذور التفكير الأمريكي الخاطىء وتحليلاته مما أظهر عجزه الشامل بتحقيق الأهداف التي تبعت هذين العمليتين في (مخلب النسر عام 1980 الفاشلة في طبس زمن حكم الرئيس كارتر)، سوى تحقيق بعضِ النجاحاتِ بدفعِ المجرمين المحليين (مجاهدي خلق) وأمثالِهم لعملٍ تخريبي في شوارع ومؤسساتِ البلاد، وقتلِ رموز الدولة الحديثة.

لقد أثبتت الوقائع هذا العجز في الإدارة الأمريكية، وأثبتت إستحالة قدرتها على منع الإنسان الإيراني من ممارسة حياته الطبيعية، وترديد شعار(الموت لأمريكا) حتى هذه الساعة.

النقدُ الذي سأوجهه في هذا المقال الى المؤسسة الأمنية الإيرانية هو الأول منذ قيام الثورة الإسلامية الى يومنا هذا (مسيرتي الإعلامية تشهد) بصبر الرجل الغامض العميق بحرصه على (المصالح) ووفائه (لمعتقد) لا يريد له أن يتصدع. هذا الموقف الذي مضت عليه عقود أخذ من عافيتي ومستقبلي فهو أشبه بالعبوة الناسفة وقد انفجرت في جَمعٍ للعصاقير، لكن بالمقابل هناك مبالغة في موقفي وثباتي وتضحياتي قد لا أجد من يستحقها. والى الله ترجع الأمور.

أفضح هذا السر لأني جعلت من المهجر الكندي محطة لتلك المواقف النبيلة ولم أستغلها كمساحة للحرية في فضخ من أساء إليَّ من أهلي في ديني وعروبتي، وحتى لا يشمت بنا الأعداء فينالوا مني ومن أهلي على السواء. هذه المواقف قدمتها بشيء من العفوية و(البلادة...) مستقبلا المسجدَ الأقصى والقدس وكلَّ فلسطين، وهو سرّ قوتي.

بقيت صابرا، محتسبا رغم معاناتي التي واجهتها في كندا منفردا أكابدُ الأمرَّين دون انحناء أو وجل. كل هذه المعاناة سأحاول سردها فيما بعد إن كان فيها شيئا من الفائدة للصالح العام وبحسب ظروفي الخاصة والعامة كوني ملتزما ولن أخرج عن السياق الموضوعي.

أيضا، في هذا المقال سأفضح قليلا مما في خاطري ردّا على الإهمال الغير مُتعَمّد الذي تكرَّرَ في المؤسسة الأمنية الإيرانية في حماية مَن خسرتهم إيران والأمة العربية والإسلامية من علماء كفوئين قادرين على وصول بلادهم الى الإكتفاء الذاتي للطاقة والخدمات الضرورية للإنسان الإيراني ودول الجوار. أما اليوم أنا أعيش في بلدٍ عربيٍّ طالما تغنيت بحبه يوم عرفته عنوانا لعروبتي، سمحا، لن يخذلني أو يشمت بي. إنتهت.    

إيران الهدفُ الصعبُ وقد تراوحَ عليها الإستهداف الأمريكي- الصهيوني منذ أكثر من أربعة عقود دون أن يحرزَ أيَّ تقدم ملموس من شأنهِ تغيير نظام الثورة القائم على مبادىء الإسلام المعتدل، لكنه استطاع تحجيم الكثير من خطواتها والنيل من اقتصادها بعقوبات لا تنسجم والقانون الدولي الإنساني في حدود البلطجة والإستهتار. هذه العقوبات هي حلقة من برنامج عمل كانت قد وضعتهُ المخابرات الأمريكية في معالجة حركة وتعاظم دور إيران في المنطقة والعالم. ومن أخطر ما عملت به هو الإغتيالات التي نفذتها بحق رموز إيران الدينية والوطنية والعلمية على مراحل مختلفة من عمر الثورة الإسلامية.

تحققت هذه الإغتيالات على أيدي عناصر منفلتة تبحث عن موقع لها في الدولة التي رفضتها وتبرأت منها على أنها كيانات مرتبطة بدول الإستكبار وتتلقى المعونات من دول رجعية في المنطقة من أمثال – منظمة مجاهدي خلق- الإرهابية. هذا الإدعاء منوط بالمصداقية والواقعية تفضحه وتثبته تلك الوقائع التي ظهرت على ساحة العمل السياسي والإغتيالات.

لقد خسرت إيران الكثير من قادتها العسكريين وحرس الثورة والبسيج بطريقة الإغتيال أو التفجير والقنص بتمويل دول إقليمية رجعية وبتخطيط إسرائيلي مفضوح فحققت تلك الفصائل المسلحة الإرهابية ما لا يحققه العدوان العسكري الأمريكي إن وقع على إيران الدولة.

فمن حيث المبدأ أنا لا أضع الصورة أمامي على أنها وجع أمريكي إسرائيلي مثلما أفسرها منذ عقود أنها تقصير مباشر في غرفة السيطرة الإيرانية التي تهتم بحماية المسؤولين وأهل الكفائات وغيرهم. فالتقصير غير متعمد أبدا وإنما يأتي من باب نقص في (الكفاءة العالية جدا) في وضع الخطة الصحيحة والدقيقة التفاصيل لحماية (الهدف) بحسب اختلاف المكان والظرف الزمني وطبيعة ذلك (الهدف).

إن عدم مراجعة وصيانة مؤسسات الحماية المركزية جعلت من خطط الإغتيال تمضي بنجاح وتحقق الغرض المرجو. لهذا خسرت إيران ضباطا كثيرين، وسياسيين، وخسرت علمائهَا من أهل الكفائات، ثم خسرت هي والعالم الإسلامي والعربي رجلين قد لا يُعوَّضا هما (قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس). وفي آخر فاجعة تلقتها إيران والمحبين كانت عملية إغتيال العالم النووي (محسن فخري زاده).

في ذات الوقت يعرف القادة الأمنيون في إيران أنه مُستهدَف مثلما عرفوا باستهداف أمريكا للشهيد سليماني ورفيقه المهندس دون أن يعالجوا كيفية خروجهما من مطار بغداد الى المكان الذي ينوون الإقامة فيه، فكان التقصير في تفكيك حلقات متابعة الحراسة الصحيحة العالية. هنا لا أعني الحراسة المشددة بالسلاح أبدا لأن الفكر أكبر من الآلة.

لا أدري، هل يتفهم عمالقة تلك المؤسسات أن الشهداء من القادة السياسيين ومن أمثال قاسم سليماني، وفخري زاده وغيرهم من المناضلين من خارج إيران أن لهم كفائات لا تشبه كفاءة مسؤول الحماية في الغرف المركزية إطلاقا لأن أساليب الحماية علم آخر أو إختصاص متفرد يتابع الأهداف ويحميها بوسائل وطرق تتعدد وتتنوع بحسب طبيعة المُستهدَف والمُستهدِف، والظرف.

فالدفاع عن النفس لا يتطلب أحيانا حمل السلاح وأجهزة الإنذار المبكر مثلما يتطلب الفكر الناضج المتفرد الذي يحسب للآخر بما لا يفقهه فيدخل عليه من حيث لا يحتسب. أما وسيلة الدفاع عن شهيد الأمة محسن فخري زادة فكانت صحيحة لكنها فقدت قيمتها كون الطبخة (ليس عليها ملح ولا بهارات) فأصبحت السيارة المُصفَّحة التي أقلَّها الشهيدُ أشبهَ بدراجةٍ هوائية وأفرادُ الحماية لقوا حتفهم أيضا فصاروا هم ضحايا الطبخة تلك. هنا يكمن تقصير المؤسسة الأمنية الإيرانية، وهنا تتعاظم التضحيات. نصيحتي للأخوة في إيران أن يسمعوا النصيحة بدوام المتابعة والصيانة داخل مؤسستهم الأمنية وأن لا يتعالوا على الناصحين، ويتعين عليهم أن يجيدوا مهمة اصطياااااااد الجواسيس داخل إيران، ويتعرفوا جيدا على أدبيات عمل المخابرات الدولية المعادية بفهم عميق جدا وذي نفع واقعي غير مخلوط بالتمني والبهرجة الإعلامية عندئذ يمكن الرد على الإغتيال في ظرف غير هذا الظرف وبأسلوب يتماشى مع شرعية الرد بحسب القوانين الدولية المرسومة لأن الواضح في عملية الإغتيال كانت على عجالة قبل مغادرة الرئيس دونالد ترامب البيت الأبيض وانها وسيلة توريط إيران في حرب لا تتمنى عواقبها. 

 

قاسم محمد الكفائي

 

 

 

في المثقف اليوم